للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام السلف في حجية السنة، والغيرة عليها]

لن نطيل الكلام في موضوع حجية السنة؛ لأننا قد وفينا هذا الموضوع حقه تماماً قريباً، ولكني هنا أجتزئ بعض النصوص التي تكفينا في هذا المقام.

فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا وجيئونا بكتاب الله! فقال عمران: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسراً؟ إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره.

وقد سبق أن قلنا في محاضرة (حجية السنة): إنّ ما عُلَّق على شرطين فلا يتم بأحدهما، والعصمة من الضلال عُلَّقت على التمسك بأمرين: الكتاب والسنة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، فمن زعم أو زيّن له الشيطان أنه عندما يقول: إنه يعتز بالقرآن، وأنه يعظم القرآن، أنه بذلك يدافع عن الإسلام، فهو في ضلال مبين، كما قال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال، فهذه علامة الضلال، فمن يكذَّب بالسنة فلا بد أن يأخذ هذا الصفة مباشرة وهي: الحكم بضلاله؛ لأن الأمان من الضلال لا يتحقق إلا بالقرآن والسنة، وسنضيف ضابط الضابط عما قريب، فيكون القرآن والسنة بفهم السلف الصالح.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـ علي رضي الله عنه لما طلب منه أن يخرج لمناظرة الخوارج: يا أمير المؤمنين! فأنا أعلم بكتاب الله منهم؛ ففي بيوتنا نزل، فقال له علي: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، فتقول ويقولون، أي: لا تجادلهم بالقرآن؛ لأن القرآن ذو وجوه، فبعض الآيات مجملة، فتحتاج إلى أن تشرح وتفصل بالسنة، أو بآيات أخرى، ولذلك قال بعض العلماء: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل لذلك: فعامة أهل البدع يحتجون بالقرآن على بدعهم، لكنهم ينحرفون في فهم القرآن الكريم، فهم لا ينكرون القرآن؛ لأن من أنكر القرآن فقد كفر، لكنهم يؤولون ويفسدون الآيات، فبعض الآيات تكون طيعة، أي: مجملة أو عامة، فالمفروض أن تبين أو تخصص، فهم يستدلون بهذه المجملات أو العمومات فيقعون في الضلال، لذلك لما قال ابن عباس لـ علي: أنه سيخرج إلى الخوارج كي يناظرهم بالقرآن، قال: صدقت، لكن القرآن حمال ذو وجوه، فتقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج إليهم فحاجهم بالسنن، فلم يبق بأيديهم حجة.

وعن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن حسين أنه سأل عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر، فقال ابن عمر: يا ابن أخي! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل.

يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلى ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال.

انتهى كلام الإمام ابن حزم.

وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، فسئلوا فأفتوا برأيهم، فضلوا وأضلوا، فإياكم وإياهم.

وقال رضي الله عنه: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.

لذلك فهم يريدون القضاء على السنة؛ حتى يستريحوا من هذه المعارضة والمساومة.

وعن أيوب السختياني: أن رجلاً قال لـ مطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله! ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن أيوب قال: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا عن القرآن فاعلم أنه ضال.

ومما يناسب موضوعنا أيضاً ما أخرجه البيهقي في (المدخل) من طريق شديد بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد! إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاًََ، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه: في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا من الإبل كذا، وفي كل كذا درهماً كذا، قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال: وفي القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، أوجدتم فيه فطوفوا سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن لا ذنب ولا جنب ولا صغار في الإسلام؟ أوما سمعتم الله قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، قال عمران: لقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.

وأخرج الدارمي عن سعيد بن جبير أنه حدث يوماً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك.

فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، ويتعهد ببقائها.

وقد حدّث أبو معاوية يوماً هارون الرشيد أمير المؤمنين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، وهو حديث القدر المعروف، فقال عمّ الرشيد معلّقاً: أين التقيا يا أبا معاوية؟! ألست تقول: حج آدم موسى، وتناظر آدم مع موسى؟ فاعترض على الحديث وقال: أين التقيا يا أبا معاوية؟! فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً وقال: أتعترض على الحديث؟! عليَّ بالنِّطع والسيف، أي: أنه سيضرب عنقه، فأُحضر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه، وأقسم ألا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا؟ فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله ويتوب إليه منها، فأطلقه.