[الوقت في السنة النبوية]
الأدلة من السنة كثيرة على أهمية الوقت، ومنها ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء) أهل الجنة في النعيم، والسلامة من التنغيص والآلام والنكد، فما هو الشيء الوحيد الذين يتحسرون عليه؟ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -أي: نخلة صغيرة- فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل) هل هناك دليل يدل على عظمة الوقت أكثر من هذا؟ حتى لو أذن الله بخراب الدنيا وقيام الساعة، وبدأ إسرافيل بالنفخ في الصور ليقضي على كل مظاهر الحياة في الكون، فمع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يقوم بحق الوقت الحاضر، ويعيش اللحظة الذي هو فيها، ويقطع النظر عن الماضي، فلا يفوت وقته الحاضر بالتندم والتحسر على الماضي، ويقطع نظره أيضاً عن المستقبل، حتى لو كان هذا المستقبل لحظة، أو جزءاً يسيراً جداً من اللحظة يوشك بعده أن تقوم الساعة وينفخ في الصور.
وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً، فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنها -يعني: أحلف عليك لابد أن تحرث الأرض وتزرعها-، يقول: فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي.
ويحكون عن كسرى فارس أنه خرج يوماً يصطاد، فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر الزيتون -وشجر الزيتون يثمر بعد ما يقارب ثلاثين سنة-، فوقف عليه وقال له: يا هذا! أنت شيخ هرم، والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه؟ فقال: أيها الملك! زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا ليأكلوا! فحتى لو كنت أنت لم تحصد هذه الثمرة، فكما حصدت ثمرة من غرس من قبلك، فاغرس لمن بعدك.
وقصة عمر رضي الله عنه في قصته مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه تبين لنا خطورة الزمن والوقت.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة) أي: لا ينطلق من بين يدي الله سبحانه وتعالى إلا بعد الحساب، إذ لابد لكل إنسان أن يحاسب، ويسأل أسئلة إجبارية وليست اختيارية: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).
فتأمل! أربعة أسئلة إجبارية، منها سؤالان في مادة الوقت في مادة الزمن: (عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) مع أن الشباب يدخل في العمر! لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم الشباب؛ لما له من قيمة متميزة، باعتباره سن الحيوية، وسن القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة.
فالشباب هو سنّ الثبات، وسنّ العمل، وسن التحصيل، بعكس ما يفهم بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: تمتع بشبابك! أنت ما زلت في مقتبل العمر! وإذا أردت أن تمنع نفسك من اللهو، والفسق، والمعاصي المنتشرة قال لك: أنت ما زلت شاباً! ويقال للمرأة: تحجبي، فتقول: أنا ما زلت صغيرة! ما زلت شابة! حتى أكبر! مع أن المرأة العجوز لا تشتهى، ولا يسمع في الغالب أنها تفتن أحداً، فكأنهم قلبوا معنى الآية، وهذا من تلبيسات الشيطان على الناس.
وبعض الناس يقول: ساعة لقلبك، وساعة لربك! فعندهم: ساعة لربك أي: نعبد ربنا، ونصلي، ونفعل ما علينا!! وساعة لقلبك، أي: يعصي الله فيها! فكأنها نوع من المعادلة، فيقسمون الوقت ساعة لربهم، وساعة لشيطانهم! فمن تلبيس الشيطان على الناس أن يظن بعضهم أن فترة الشباب فترة العبث واللهو، وبعدما يعجز يتوب!! يقول بعض الشعراء: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما صنع المشيبُ عبر بـ: (ليت) التي فيها تمني المستحيل؛ لأن (كل داء أنزله الله له دواء إلا الهرم) أي: الشيخوخة، فلا يعود الشباب أبداً، فهذه أعظم فرص التحصيل، وهي فرصة الشباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً؟ {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:٨٣] يعني: ذرية من الشباب، وأصحاب الكهف كانوا من الشباب: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:١٠]، وتقول حفصة بنت سيرين رحمها الله: يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب؛ فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
الطفل لا يعمل، والعجوز لا يقوى على ما يقوى عليه الشباب.
ومن الأحاديث التي تبين قيمة الوقت: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، والغبن: أن يشتري الإنسان السلعة بأضعاف الثمن، أو يبيع بدون ثمن المثل، فالإنسان إما بائع أو مشتري، فإذا اشترى شيئاً بأضعاف ثمنه الحقيقي فقد غبن، وإذا باع شيئاً بأقل من سعر المثل فقد غبن، أي: في الحالتين تحصل خسارة.
فهاتان نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، إذ إن رأس مال الإنسان في هذه الدنيا أمران: الصحة، والفراغ -الوقت-، فالصحة ضيف عابر يعقبها السقم، والفراغ يعقبه الشغل، فمن جمع الله له هاتين النعمتين فوضعهما في موضعهما فهو المغبوط على هذا، وإلا فهو المغبون مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) أي: أدرك هذه الغنيمة، ولا تدعها تهرب منك؛ فإنها ضيف عابر ينزل عليك ثم سرعان ما يخلفه غيره: (شبابك قبل هرمك)، فاغتنم شبابك؛ لأنه وقت الطاعات، ووقت تحصيل الأعمال، (اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة) رواه البخاري، الإعذار: إزالة العذر، والمعنى: أن هذا الشخص لم يبق له عذر؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمهله، أنت كلما نمت واستيقظت هذه نعمة؛ لذلك كان عليه الصلاة والسلام أول ما يستيقظ يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافني في جسدي، وأذن لي بذكره)، فهذه الروح تخرج عند النوم، لأن النوم أخو الموت، وهو الموتة الصغرى، فتخرج هذه الروح من البدن بكيفية معينة الله يعلمها، فأنت في حالة النوم ميت، فالنوم شقيق الموت، فإذا خرجت روحك فمن يعيدها إليك؟ الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الله يمن عليك كل يوم بأن يرد إليك روحك ليمهلك، ويستعتبك، ويعطيك فرصة، فمن أعظم النعم أنك ترى نفسك في الصباح ما زلت حياً، فهذه فرصة جديدة تفتح لك الأبواب: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار)، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تنفد، ونعمه على العباد لا تنقطع، ولا تعد ولا تحصى، فهذه من أعظم النعم عليك؛ لأنه كان من الممكن أن يأخذ روحك، وما أكثر ما نسمع عن إنسان نام فلم يقم!! تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري فهذا الحديث مما يبين خطورة الوقت؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا أمهل الإنسان، ومد له في عمره حتى بلغه ستين سنة، فليس له عذر عند الله، ولم يبق له أي موضع اعتذار إذا تمادى في المعاصي، (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة).
ولعل هذه هي الحكمة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك) (أعمار أمتي) أي: أغلب هذه الأمة أعمارها تكون بين الستين والسبعين، (وأقلهم من يجوز ذلك)، فهذه من منن الله على هذه الأمة أن يمهل لهم، ويمد لهم في الأجل حتى يتوبوا.
ومما يبين قيمة الوقت أيضاً من السنة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مر مع الصحابة رضي الله عنهم على قبر، فوقف، وقال لهم: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله، أحب إليه من بقية دنياكم)، (ركعتان خفيفتان مما تحقرون) تصلي ركعتين وتقول: هذه طاعة يسيرة (مما تحقرون وتنفلون) أي: نافلة وسنة، (يزيدهما هذا الرجل في عمله) أي: يتمنى لو يخرج إلى الدنيا فقط ليصلي ركعتين، ويعاد في القبر، يتمنى أن ينتهز هذا الزمن اليسير -خمس أو ثلاث دقائق- ليصلي ركعتين، وهذا أحب إليه من بقية دنياكم.
ولما بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده من الجريد وسعف النخل، قيل له: (يا رسول الله! هلا اتخذت لبناً؟ -أي: هلا بنيت المسجد من الطوب؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عريش كعريش موسى، ثمام وخشبات، والأمر أعجل من ذلك)!! وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) (أدلج) يعني: مشى بالليل، كان الناس من قبل يسافرون على الدواب والجمال والخيول ونحوها، فكان إذا خاف الإنسان ألا يصل إلى البلدة التي يسافر إليها في الموعد، فلا ينام بالليل، ويظل يدلج، أي: يسير في الليل.
فيقول النبي عليه الصلاة وا