ذكرنا سابقاً: أن اعتذار صاحب البيت عن الإذن بدخول المستأذن إما أن يكون اعتذاراً ضمنياً، وإما أن يكون صريحاً، وقد دلّ قول الله تبارك وتعالى:{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا}[النور:٢٨] على حالة الاعتذار الضمني، فربما كان صاحب البيت موجوداً في البيت، لكنه لم يشأ أن يرد على المستأذن، فيصدق على المستأذن أنه لم يجد فيها أحداً؛ لأن الله تعالى نفى الوجدان ولم ينف الوجود، ولو قال:(فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف، والسر الدقيق، فتأملوا قول الله تعالى:(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا)، ولم يقل:(فإن لم يكن)، فإذا استأذن شخص ثلاثاً وسُكت عنه وجب عليه أن ينصرف بعد الثلاث؛ لحديث عبد الله بن بسر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باباً يريد أن يستأذن لم يستقبله، وجاء يميناً أو شمالاً، فإن أذن له وإلا انصرف)، وفي حديث أبي سعيد:(فإن أذن لك وإلا فارجع) يعني بعد الثلاث.
أما إذا استأذن شخص ثلاثاً أو أقل وأجيب بقول صاحب الدار: ارجعوا، فالواجب الانصراف فوراً، وهو على يقين أن هذا أفضل له، فلا ينفخ الشيطان في صدره، ولا يحمّي أنفه ويقول: كيف يهينني؟! كيف لا يحترمني؟! فيقال لمثل هذا: أما تعرف أعذار الناس؟! وما هذا إلاّ بسبب الجهل بآداب الإسلام، فيجب على الإنسان إذا قيل له: ارجع، أن يرجع فوراً وهو على يقين أن هذا أزكى له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}[النور:٢٨]، فما قال الله فيه أنه أزكى لنا فلا شك أن لنا فيه خيراً وأجراً.
وعن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع.
إذاً: فالواجب على من لم يؤذن له أن ينصرف فوراً، ولا يجوز له أن يقف على الباب، ولا أنْ يلح بالاستئذان، ولا أنْ يتكلم بكلام قبيح، أو أن يقعد على الباب لينتظر؛ لأن للناس حاجات وأشغالاً في المنازل، فلو قعد على الباب وانتظر ضاق ذرعهم، وشغل قلوبهم، ولا تلتئم حاجاتهم، فكان الرجوع خيراً له ولهم.
يقول قتادة: فمن لم يؤذن له-يعني: بعد الثلاث- فليرجع، أما الأولى: فليسمع الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغالاً، والله أولى بالعذر.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: والرجوع أفضل من الإلحاح وتكرار الاستئذان والقعود على الباب؛ لأن في ذلك بعداً عن الريبة والدناءة.