للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل]

ٍأما ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) فذكر كثيراً من النماذج العظيمة جداً في كيفية التفكر في مخلوقات الله عز وجل، على ضآلة الاكتشافات العلمية في عصر ابن القيم، ولكن هذا الكتاب يعكس مدى مواكبة ابن القيم لثقافة عصره، بحيث يمكن أن نقف الآن على أناس لا يعرفون عشراً من أعشار ما كان يعرف ابن القيم قبل تقدم هذه العلوم، مما يدل على اهتمام علمائنا وأسلافنا بهذا الباب جداً.

فيتكلم ابن القيم في موضع من كتابه: (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) على عبودية الشجر، ويقول: فتبارك الله رب العالمين الذي يعلم مساقط تلك الأوراق ومنابتها، فلا تخرج منها ورقة إلا بإذنه، ولا تسقط إلا بعلمه، ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر.

ونحن إذا نظرنا إلى متحف الأحياء المائية نجد فيه أشياء عجيبة ليست كما عندنا، فأنت حينما ترى هذه المناظر الجميلة والبديعة تنبهر بجمال خلق الله سبحانه وتعالى في المناظر الطبيعية، وفي الجمال، فما بالك لو انكشف لك صوتها وهي تسبح، حتى ترى نوعاً آخر من الجمال لا يمكن أن تقيسه بجانب الجمال الذي تدركه بعينك فقط؟ وإذا سمعت صوت الطيور في الصباح وهي تغرد بهذه الأصوات الجميلة فإنك ترتاح لذلك، وتأنس به، وتتمتع بهذا الصوت، فما بالك لو فقهت تسبيحها؟ لا شك أنك سترى ما هو أجمل من هذا الأمر الظاهري الذي تراه.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ومع هذا فلو شاهدها العباد على كثرتها وتنوعها وهي تسبح بحمد ربها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمراً آخر، ولرأوا خلقتها بعين أخرى، ولعلموا أنها لشأن عظيم خلقت، وأنها لم تخلق سدى.

يقول تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:٦] فالنجم: ما ليس له ساق من النبات، والشجر ما له ساق، وكلها ساجدة لله مسبحة بحمده، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:٤٤].

يقول ابن القيم رحمه الله: ولعلك أن تكون ممن غلظ حجابه فذهب إلى أن التسبيح دلالتها على صانعها فقط، فاعلم أن هذا القول يظهر بطلانه من أكثر من ثلاثين وجهاً، وقد ذكرنا أكثرها في موضع آخر، وفي أي لغة تسمى الدلالة على الصانع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه.

أي: هل توجد لغة من اللغات يعبر بها عن هذه الأفعال: السجود والتسبيح والصلاة والتأويب بمعنى الدلالة على الخالق؟ يقول ابن القيم: في أي لغة تسمى الدلالة على الطالع تسبيحاً وسجوداً وصلاة وتأويباً وهبوطاً من خشيته كما ذكر ذلك تعالى في كتابه؟ فتارة يخبر عنها بالتسبيح، وتارة بالسجود، وتارة بالصلاة، كقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:٤١]، أفترى يقبل عقلك أن يكون معنى الآية: قد علم الله دلالته عليه؟ وسمى تلك الدلالة صلاة وتسبيحاً، وفرق بينهما، وعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي هنا المغايرة.

وتارة يخبر عنها بالتأويب كقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:١٠]، وتارة يخبر عنها بالتسبيح الخاص بوقت دون وقت، كالعشي والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما يكون في هذين الوقتين؟ أي: هل الجبال تدل على الله سبحانه وتعالى بالعشي والإشراق فقط، وأما في الضحى وفي الليل فلا تدل؟ فيدل التخصيص بهذين الوقتين على أنها صلاة حقيقية وتسبيح حقيقي.