[موقف الطبيب عبده من لجوء والده إليه عند الشدة]
في يوم من أيام سنة (١٩٠٩م) والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة على مقربة من السجن، والوقت بعد الظهيرة، والحر قائض، والطبيب قد أنهى عمله وعاد إلى داره إذا بأحد مساعديه يصعد الدرج مسرعاً ويقترب منه، ويهمس في أذنه كلاماً هاماً، وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع، ورفع الطبيب صوته متسائلاً: وأين هو الآن؟ قال: إنه يقف بباب الدار.
ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره، وعاد ومعه ضيف من القاهرة، كان هذا الضيف هو الخواجه إبراهيم والد الطبيب، وقد وصل فجأة بعد قطيعة تامة ومتصلة، منذ كان ولده في مرحلة الامتياز بالقصر العيني، فدخلت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار، وبقي الطبيب ووالده لا يجدان عندهما ما يقال بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب.
قال الطبيب: كيف أنت يا أبي؟ وكيف حال أمي وإخوتي؟ ولما هم الوالد بالجواب احتبست الألفاظ في صدره، واحتمل رأسه بين يديه لحظة، ثم انهارت بقية المقاومة التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى، فانفجر ينتحب كالثكلى، ولم يحاول ابنه أن يمنعه، بل تركه برهة وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه، وأقبل عليه حينما عاوده الهدوء وقال: ماذا بك يا أبي؟ وكيف أمي وإخوتي؟ قال: إنهم بخير نحمد الرب، ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية! قال: هون عليك، وأشركني فيما يئودك حمله لعلي أكون في عونك.
قال: لهذا جئت إليك، ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي، وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي.
ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول -وقد تهدج صوته من جديد-: يا عبده! إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت حتى أتممت معظم دراسة الطب هذا البيت الذي يأوينا ويتسع لأسرتنا كلها سيباع في غدٍ بأبخس الأثمان أمام دائرة البيوع بالمحكمة وفاءً لدين استحق للبنك، وكان الدين صغيراً، ولكن الفوائد ومصاريف التقاضي ضاعفته، وأختك -يا عبده - ابنتي الكبرى سيكون زفافها بعد أسبوع واحد، ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن، ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة! وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي؟! فأظلمت الدنيا في وجهي.
وخانته قواه فعاد يبكي وينتحب في مرارة شديدة.
وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة؟ قال: ثمانمائة جنيه والبيت -كما تعلم- يساوي أضعاف هذه القيمة، ولكن جلسات البيع يسودها جو من المناورات والاحتكار البشع، وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون مثل هذه البيوع بإجراءات جهنمية، تكفل لهم توجيه البيوع على هواهم.
قال الطبيب: إن هذا لعجيب! أوليست المحاكم تقوم من أجل الحق والعدل؟! فبكى الوالد ثم نظر وقال: بني! إنك تعيش في برجك العاجي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد، إن الدَّين الصغير -يا بني- يكفي للإطاحة بثروة كبيرة، خاصة إذا وصل الأمر إلى دائرة البيوع، ومن حول الجلسة زبانية يتسمعون الأخبار ويتعارفون على كل وافد للمزاد.
قال الطبيب: لماذا لا ندفع جانباً من الدين ثم نتدبر في أمر الباقي؟ فكأنه شعر أنه لا يريد أن يمد له يد المساعدة فقال: يا بني! يا عبده! قلت لك: إن هذا كله قد فات أوانه، وإني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا.
وظل يشكو له ما حدث بالتفصيل، وكيف أنه الآن على الهاوية، ثم قال: عفواً يا بني، لقد أفسدت عليك وقت الراحة، والجو شديد الحرارة، ولكن العذر واضح لك، ولي معك كلمة أخيرة أقوله وأنا واثق من أن جميع إخوتك يؤيدونها راضين بها، وأنت يا عبده أولى من الغريب، فتعال معي في جلسة البيوع لتشتري أنت البيت قبل جلسة المزاد لقاء دفع قيمة الحكم كاملة، فلا يضع الغريب يده على دارنا ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك.
ثم قال له والده: ما قصدت شيئاً من ذلك أبداً.
وإنما أقول: أنت أولى من الغريب، ثم إنك لن تلقي بأهلك إلى الطريق العام إن قصروا في دفع الإيجار، ثم إن لك أسرة خاصة الآن، ولأولادك حق على مالك، وهذا ما قصدته حين قلت لك: أنت أولى من الغريب، فلا تزدني ألماً، وحسبي ما أنا فيه.
قال الطبيب: لا عليك، اصبر يا والدي، وائذن لي بتركك برهة صغيرة.
ودخل إلى حجرته الخاصة، ثم عاد يحمل كيساً في يده، ودفعه إلى أبيه وقال: هذه ثمانمائة جنيه ذهباً هي لك يا أبي، فتصرف فيها كيف تشاء.
فدهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز، وسأل في تكرار: والدار متى تحضر لاتخاذ اجراءات نقل ملكيتها إليك؟ قال: لا حاجة لي بها، بل تبقى داراً لك أنت، فأنت والد الجميع، ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية تستمد الأسرة كلها تقدير الناس، وإني ليسرني أن تبقى محل ثقة الناس واحترامهم.
وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة، وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه، ثم قال في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك؟! وماذا صنعت معي وأنت قادر علي؟! وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه، وانصرف الخواجه إبراهيم، ونجا من ضائقة كادت تعصف به، وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار.