[ضرورة المحافظة على الفطرة منذ الصغر وأهميتها]
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن المسلمين لما صحوا من غفلتهم رأوا الهوة بينهم وبين الإسلام عميقة، فقد علموا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أيقنوا أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا لمنع هذه الفجوة، ويقودنا في المقام الأول -كي نصلح أحوالنا- إلى أن نسلك نفس النهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الاهتمام بتربية الجيل الأول -الجيل القرآني الفريد- ببناء المجتمع المسلم، وبناء النواة الأساسية له، ألا وهي الفرد المسلم، وكثرت بعد ما يسمى بالصحوة الإسلامية البيوت الإسلامية، وتضاعف عددها عن ذي قبل عشرات، بل مئات المرات، هذه البيوت ينتظر منها أن تقدم اللبنات، أولئك الأفذاذ الذين يشكلون أعمدة رأسية في البناء؛ كي تحمل ثقل هذا البناء فيما بعد، واليوم يعد البيت من أهم المؤسسات التربوية، ودوره أخطر من دور المدرسة والشارع والمجتمع بإعلامه وأنديته وأجهزته، فالبيت يتسلم الطفل من البداية في أهم وأخطر مراحل حياته، فالطفل يولد على الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فإذا قدر لهذا المولود بيئة سليمة نقية حافظت على هذه الأمانة، وهي نقاء الفطرة وصفاؤها، ورسخت في قلبه العقيدة والتوحيد والولاء لله عز وجل ولرسوله.
وأذكر هنا قصة ذكرها أستاذنا الدكتور محمد الصبار حفظه الله تعالى عن الشيخ مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري المعروف، فقد جاءه رجل ولدت له بنت، فسأله عن نصائحه وتوجيهاته في تربية البنت، فقال: كم عمرها؟ قال: ثلاثة أشهر.
قال: فاتك القطار، فاتك القطار.
فقال بعد ذلك: ظننت أني كنت مبالغاً في هذا الجواب الذي أجبت به ذلك المستنصح.
يقول: لكنني لما تأملت حال الناس وجدت أن ما قلته عين الإصابة، وأنني لم أخطئ ولم أبالغ في قولي لهذا الرجل: فاتك القطار؛ لأنه تأخر عن الاستعداد لتربية ابنته لمدة ثلاثة شهور أو تزيد.
يقول: وذلك أن الأم إذا عودت طفلها من اللحظات الأولى على أنه كلما صرخ تلقمه الثدي كي يرضع وتسكته بذلك فإن هذا يشب على نفس هذا الأسلوب التربوي، فكلما ضربه اليهود تراه يفزع إلى مجلس الأمن صارخاً وباكياً! ففي الحقيقة أن الطفل شديد الصلة ولصيق الصلة بأمه التي تعد العماد الأساسي للعملية التربوية، وأي خطأ ترتكبه الأم الجاهلة خاصة في هذه المراحل الأولى فإنه ينعكس في مراحل بعيدة جداً من حياة هذا الصغير.
والغربيون نجحوا أيما نجاح في دراسة هذه الأمور وتحليلها ودراستها من الناحية النفسية، حتى عرف عنهم أن الأم تبدأ في تربية الطفل قبل أن يولد، فإن الأم في فترة معينة من مراحل نمو الجنين وهو في بطنها تبدأ تمرنه وتعوده على حركات معينة تفعلها، بل إنها تكلمه حتى يتعود على صوتها وهو في داخل رحمها، وتعوده على بعض التعبيرات حتى إذا ما خرج يكون قد ألف هذا الصوت، وتقفز لذلك مراحل كثيرة.
أما نحن فنظل ننظر إلى الطفل في أغلب أحوالنا على أنه مضغة لحم، وأنه لعبة ملهية نتسلى بها ونضحك بها، ويشب على المبالغة في التدليل الذي يفسده، ونعامله دائماً على أنه طفل، وعلى أنه صغير، نحقره ونهمله ولا نهتم به، وهذه من التربية المنحرفة.
فالطفل يبدأ حينما يولد بالتعرف على الأم، فأول ما يبدأ يتعرف على أمه برائحتها، ثم بعد ذلك يتعرف على أمه بصوتها، وتكون لغة الأم هي أول ما يخلده ذلك الطفل.
ومن المعلوم أيضاً أن أثر غياب الأم بالذات في هذه المراحل الأولى من التغذية يفوق أثر غياب الأب على الأطفال، ونلمح ذلك من حكمة الشريعة الحنيفية حينما شرعت حق الحضانة في هذه المراحل الأولى للأم؛ لأن الأب لا يستطيع أن يقدم ما تقدمه هذه الأم.
ومما يدل على خطورة هذه المرحلة طول الفترة التي يقضيها الطفل في البيت أطول من غيرها، كذلك الوالدان هما أقرب الناس إلى الطفل، وينحصر الطفل في مصادر التلقي التي يتلقى منها القيم والمفاهيم والآداب والأخلاق فقط بصفة أساسية في والديه، ويكون أبواه في عينيه أعظم إنسانين في الوجود، فيتلقى كل ما يلقيان إليه بقبول مطلق، لذلك فإن مهمة الأبوين ومهمة الأم المسلمة والأسرة المسلمة في المقام الأول هي المحافظة على هذه الفطرة التي فطر الله تبارك وتعالى عليها الطفل.