يجب أن نبين أن الظهور العلمي، والاكتشافات المذهلة في مجال الطب والعلاج، والتقدم العجيب الذي حصل فعلاً في مجال الأمراض النفسية قد اغتر به كثير ممن تربوا على طب وثقافة الغرب، وانبهروا به انبهاراً كلياً، حتى إنهم اعتقدوا أن كل شيء في هذا الوجود قد أصبح لهم واضحاً، وأن ما كان يعتقده الأولون في الماضي من حالات تلبس الجن أصبحت الآن مفهومة من خلال عملية اللاشعور التي تقوم بوظيفة دفاعية من أجل مصلحة توازن المريض.
وأكثر الحالات إثارة للجدل هي حالات الهستيريا، وهي الحالات المسئولة عن هذا التشوش، فحالات الهستيريا هي نفس الحالات التي استغلها هؤلاء المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته، وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعالياً، والقابلة للإيحاء في نفس الوقت، وعند عدم قدرة الطالب أو عدم رغبته مثلاً في إكمال دراسته، أو عدم تكيف زوجة في زواجها، أو نحو ذلك من الضغوط؛ فإنه يحدث نوع من الانشقاق في مستوى الوعي، فتحدث حالات الإغماء أو الصرع الهستيري، أو يتصرف الشخص بالفعل كأنه شخص آخر، ليعبر عما لم يستطع التعبير عنه في حالاته العادية، وأحياناً يغير صوته، والأطباء يعرفون هذا جيداً، كأن يكون المريض مثقفاً، وكان قد قرأ، الذبحة الصدرية، أو يعرفها، فيستولي عليه الوهم حتى أنه ليأتي بكل أعراض الذبحة وما به من ذبحة، أو يأتي بأعراض الشلل وما به من شلل، كما حصل في أول حالة هستيريا عولجت، وقد حدثت هذه الحالة في زمان الإغريق، حيث شعر شاب بأنه مشلول، وأتي به إلى المعبد كي يتعالج من الشلل التام الذي ألم به، فقام أحد رهبانهم ومضلليهم واختطف حقيبة الشاب من يده بسرعة وولى هارباً، فما كان من هذا المريض الذي كان يدعي الشلل إلا أن لحق الراهب بسرعة وبدون شعور! فأكثر حالات الهستيريا هي من حالات الالتباس التي أثرت على هؤلاء المعالجين، وسنوضح هذا الأمر إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
والشخص المعالج قد يفعل أشياء تؤكد هذا الإيحاء الذاتي الموجود عند المريض بسلوكياته، ويكون هذا المريض قد امتلأ عقله وشحن بعشرات القصص عن موضوع الجن، وسمع عدة أشرطة، وقرأ عشرات الكتب، وسمع محاضرات وأحاديث أصدقائه، ومجالس الحوار وغير ذلك، هذا إن لم يكن قد حضر حالات الجن، فهو مهيأ أصلاً لإتقان الدور تماماً، ويحفظ السيناريو -كما يقولون- من الألف إلى الياء بمنتهى الإتقان.
فهؤلاء المعالجون الشعبيون يمارسون نوعاً من الإيحاءات للمريض، وقد يحدثون له نوعاً من الإيلام بالضرب إذا لزم الأمر، فيفيق من هذا الانشقاق الهروبي بسرعة، وينبهر بذلك العامة، وتزداد ثقتهم بهذا المعالج! لكن نفس هذه الأعراض ما تلبث أن تعود من جديد عند أول ضغط نفسي أو اجتماعي؛ لأن المعالج لم يبحث عن السبب الحسي، وإنما عالج العرض الموجود فقط في جو من الغموض، بل ويحدث أن يتمادى المريض في أعراضه ويصورها بعد ما رأى وسمع من إيحاءات عن تلبس الجن، وتزداد الأمور تعقيداً، وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذي يبتزهم تحت وهم تأثير الجن! وقد أراد البعض منهم أن يوسع تأثيره على الناس، فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى، وانتشرت الأشرطة، وسببت فزعاً لكل من سمعها، وقد جاءوا زرافات ووحداناً! إلى هذا المعالج كي يعالجهم من تأثيرها، وكثير من الأخصائيين النفسانيين حينما سمعوا هذه الأشرطة -وهم من المسلمين المتقين الذين يؤمنون بلبس الجن- لم يشتبهوا لحظة في أن هذه حالات هستيريا، وليست في الحقيقة حالات مس شيطاني، وإنما تحدث هذه الهستيريا تحت إيحاءات هذا المعالج؛ لأن المعالج يرتكب أول خطأ عندما لا يتأكد ويتيقن من التشخيص، بل أول ما يبدأ بقراءة القرآن، ولذلك يحس هذا الشخص المريض بأنه مصروع، حتى ولو لم يكن كذلك.
فالخطأ من المعالج عندما يربط بين قراءة القرآن وبين اللبس مباشرة دون تأكد، فالمريض عندما يستشعر أن المعالج يقرأ عليه القرآن الكريم، حينئذٍ يترسخ عنده نفس هذا الوهم والإيحاء بأنه مصاب بالمس.