[معنى قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) وسبب نزولها]
الآيات في موضوع التوبة والاستقامة كثيرة، منها هذه الآية في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:١٦ - ١٧].
يقول الله عز وجل: (ألم يأن) يعني: ألم يحن أو ألم يأت الأوان والحين، وهو من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه، أي: وقته بمعنى يقرب.
كما قال الشاعر: ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب الملم لي العقلا وكما أنشد ابن السكيت: ألما يأن لي أن تجّلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا معنى قوله تعالى: (ألم يأن) أي: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه.
قوله تعالى: (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) هذا فيه بيان أن دواء قسوة القلوب هو ذكر الله.
قوله: (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) هو القرآن الكريم.
والخشوع أصله في اللغة: السكون والطمأنينة والانخفاض.
أما في الشرع: فهو خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون كما هو شأن الإنسان الخائف.
إذاً: لقد حان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وجاء الحين والأوان لذلك؛ لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:١٦]).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:١٦] إلا أربع سنين) رواه مسلم، والعتاب: هو مخاطبة الإدلال وطلب حسن المراجعة والتذكير بما كره من عمله.
يقول ابن مسعود: (لما نزلت هذه الآية بهذا العتاب من الله عز وجل، جعل بعضنا ينظر إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟!) أي: ما الشيء الذي أوجب نزول هذه الآية؟ وما التقصير الذي قصرناه؟ وقال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه تبارك وتعالى.
ويروى في بعض كتب التفاسير: أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦]، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم الخشوع، فقالوا عند ذلك: خشعنا).
وهذا أيضاً يذكرنا بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:٢٤] قوله: (لما يحييكم) أي: يحيي قلوبكم، ثم قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤].
قوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ) أي: الأجل والإمهال والاستدراج.
قوله: (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: بطول الأمد.
إذاً: الإنسان قد يعلم الآيات ويعلم الأحاديث ويعلم الحلال ويعلم الحرام، لكن قلبه لا ينفعل بهذه الآيات والأحاديث لطول الأمد الذي يحدث قسوة في القلوب.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون الموعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد.
قوله: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن طاعة الله، فاسقون في الأعمال فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:١٣]، فكل نقض لميثاق الله وعهد الله يعاقب الإنسان من جرائه بقسوة القلب، ماذا أحدثت هذه القسوة؟ {يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:١٣].
ويقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:١١٠]، ويقول عز وجل: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:٢٧] أي: خارجون عن أمر الله تبارك وتعالى.
يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:١٣] أي: فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في أي شيء من الأمور الأصلية أو الفرعية.
ثم قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:١٧] فيه إشارة إلى أنه تبارك وتعالى يلين القلوب بعد قساوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦]: الذين ابتدعوا الرهبانية من أصحاب الصوامع قست قلوبهم فخرجوا وفسقوا عن أمر الله عز وجل.
وقيل: الفاسقون: هم من لا يعلم ما يتدين به من الفقه، ويخالف من يعلم، وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة رضي الله عنهم بمكة مجدبين، فلما هاجروا إلى المدينة أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم فوعظهم الله؛ فأفاقوا.
وقال ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس قال: (بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى، ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).