المنطلق الثاني: أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين، فعليك أن تنطلق من هذا المنطلق وأن تشعر أنك رحمة للناس ولست عذاباً ينصب عليهم، وهذه الرحمة هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧]، وقال صلى الله عليه وسلم:(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن المشركين:(لو لعنتهم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً) رواه مسلم.
بل كان صلى الله عليه وسلم يشفق شفقة كبيرة على قومه إذ لم يستجيبوا له وأعرضوا عنه، فكان يشتد به الحزن ويلم به الوجد عليهم، حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، لقد كاد أن يموت ويهلك من الحزن والحسرة عليهم أنهم لم ينجوا من عذاب الله تبارك وتعالى، حتى نزل الوحي يهون عليه أكثر من مرة انفعاله بإعراضهم عنه صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تبارك وتعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:٦] أي: لعلك تهلك نفسك أسفاً على هؤلاء إذ لم يؤمنوا بك.
وقال تبارك وتعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:٣]، وقال عز وجل:{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر:٨].
فلهذا ينبغي أن يستقر هذا المعنى في قلوبنا، وهو أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالرحمة لعباد الله تبارك وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم:(لا تنزع الرحمة إلا من شقي)، وقال صلى الله عليه وسلم:(لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، وقال صلى الله عليه وسلم:(إن مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها)، فهو يريد أن ينقذ هذه الفراش من النار وهي رغم ذلك تنجذب إلى ناحية الضوء ولا تدري أن في ذلك هلاكها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينجي الناس من أن يقتحموا النار ويهلكوا أنفسهم في النار والحال أنهم تجذبهم الشهوات التي تورد النيران فينجذبون إلى النار وإلى ما يؤدي إلى دخول النار من الشهوات والضلالات، وهو يردهم شفقة وخوفاً عليهم، فيمسك هذا من يده وهذا من جانبه وهذا من قميصه، يريد أن ينجي من استطاع من عذاب النار، لكنهم يقاومونه رغماً عنه ويلقون بأنفسهم في جهنم، والعياذ بالله! فانظر كيف صور النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفة الرحمة، يقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧]، فهو رحمة لجميع الأمم، رحمة للمسلمين الذين آمنوا به، ثم رحمة لليهود، ورحمة للنصارى، ورحمة لكل أنواع الكفرة والمشركين، حتى البهائم والحيوانات، فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرحم حتى هذه العجماوات، قال صلى الله عليه وسلم:(وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، حتى الحيوان إذا أردت أن تذبحه فلا تعذبه بذلك.
وقال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:١٥٩].
إن بعض الناس يتصور أن القوة في الدين إنما تكون بالغلظة والجفاء والقسوة على خلق الله، بل والتكبر عليهم والاستعلاء ومعاملتهم بالقسوة، ولا يدري المسكين أن قلبه بيد ربه يحوله متى شاء، كما قال عز وجل:{كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا}[النساء:٩٤]، تبينوا فضل الله عليكم، فهو الذي هداكم، فلا تستكبر على خلق الله ولا تتعالَ على عباد الله، فأنت ليس بيدك شيء، وهذا الفضل أعطاك الله إياه وحرم هذا الشخص منه، وهو عز وجل قادر على أن يعكس الأمر فتضل أنت ويهتدي هذا الشخص، فالعبادة فضل من الله ومنة من الله تبارك وتعالى.
وكذلك لا ينظر الإنسان إلى الناس في ذنوبهم كأنه رب يطلع عليهم وسوف يحاسبهم ويعذبهم، فإنما هو مثلهم عبد مذنب خطاء، وخير الخطائين التوابون.