تذكر الأخ أن بداية التدهور في حاله كانت بعد التخرج من الجامعة، وعندما أصبحت عليه تكاليف معيشية، وأعباء مالية، وتطلعات مستقبلية، فعليه أن ينفق على نفسه، وعليه أن يتزوج، وعليه أن يعد المسكن، فإذا أعده فعليه أن يزوده بالثلاجة وسائر الكماليات، وعليه وعليه، فبدأ يتنازل تدريجياً عن طاعات كان يؤديها، وزين له الشيطان سوء عمله، وأنها فترة قصيرة وستنقضي، ولكنها طالت وطالت، وأصبح التنازل صفته، وكل يوم تزداد الدنيا تزيناً له، فأصبح يعمل في وظيفة من الصباح حتى العصر، ويرجع إلى بيته في وقت الغداء، ويرجع بعد العصر لوظيفة أخرى حتى العشاء، وأخرى من بعد العشاء حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً، ثم يعود إلى البيت وهو يحلم بالسرير لكي يرتمي عليه، وينام حتى يستيقظ على عمله في الصباح، وهكذا كل يوم.
وانطبق عليه قول القائل: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع وأصبح الذي يربطه بالإسلام هو مظهره إن كان يحافظ عليه، وصلاته التي يعلم الله مدى خشوعها، أما بقية يومه فللدنيا.
وعندما انتبه هذا الأخ إلى حاله، وفوجئ بهذا الواقع المرير، علم أنه سائر في طريق الهلاك لا محالة، فربما ترك الصلاة كما ترك ما قبلها، وربما تخلص من مظهره الإسلامي كما تخلص من أشياء كثيرة كان يظن سابقاً أنه من المحال التنازل عنها.
وعندئذ انتابت هذا الأخ موجة شديدة من الأسى والحزن على نفسه، فتناول أحد كتب الرقائق من مكتبته، فإذا به يرى أطباء القلوب قد شخصوا هذا المرض منذ ظهوره، فيقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: فمن العجائب أننا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا، وركبنا البحار والبراري، وخاطرنا، واجتهدنا، وتعبنا في طلب أرزاقنا، ولا نثق بضمان الله لنا، ثم إذا طمحت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا: اللهم اغفر لنا وارحمنا! والذي عليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:٣٩]، ويقول:{وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:٣٣]، ويقول:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:٦].
يعني: إذا كان طلب الرزق الذي هو مضمون تكد وتتعب، وإذا قال لك أحد: هون عليك فإن الرزق مضمون فإنك تقول له: كل شيء بسبب فتسعى وتكد، فكذلك في الآخرة -أيضاً- لا بد من أخذ هذه الأسباب، خاصة أن الله لم يضمن لك الجنة، ولكن قال:(وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).
يقول: كل ذلك لا ينبهنا، ولا يخرجنا من أودية غرورنا وأمانينا، وصدق الشاعر عندما قال: أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا وما أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما اسـ ـتغنى الملوك بدنياهم عن الدين قال الحسن: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل؛ فرحم الله امرأ نظر إلى نفسه، وبكى على عدد ذنوبه.