ما الحكمة من هذا الافتراق؟ كثير من الناس يتناولون الموضوع بطريقة عاطفية، ويتألمون لافتراق المسلمين وتمزقهم، ويقولون: هلا جعل الله سبحانه وتعالى الأمة فرقة واحدة ناجية وتدخل في الجنة؟ نقول: إن الافتراق هذا شر من الشرور، وهو أمر كوني قدري أوجده الله لحكمة، فالأمور الكونية القدرية قد يوجد منها أشياء يبغضها الله ويكرهها، لكن يشاؤها سبحانه وتعالى قدراً وكوناً لحكم عظيمة تترتب على ذلك، فالافتراق أمرٌ كوني قدري لكننا أمرنا شرعاً بعلاج هذا الخلاف، والدليل قوله تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود:١١٨ - ١١٩] ولا يزالون مختلفين كما اختلف الناس من أهل الكفر إلى يهود ونصارى، كذلك أهل الإسلام قدر الله وقضى بهذه الفرقة لحكم عظيمة، ولما يترتب على هذا من ألوان العبودية والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فنحن خلقنا للابتلاء، فلا يجوز أن نقول: نقترح على الله سبحانه وتعالى أن يجعل المسلمين فرقة واحدة كي لا يتمزق المسلمون وتذهب شوكتهم؟! كل هذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، ونحن خلقنا للابتلاء:{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ}[الإنسان:٢]، وقال تعالى:{لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:٧]، وقال:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:٣٥]،) وقال:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:٢]، فخلق الله سبحانه وتعالى نعيم الدنيا لينبهنا إلى نعيم الجنة، وخلط هذا النعيم بالمنغصات لندرك أن الدنيا ليست دار الجزاء ولا دار النعيم، وخلق النار في الدنيا تذكرة ومتاعاً للمقوين، نستدفئ بها ولنتذكر بها نار الآخرة، ونحن الآن في دار الابتلاء، وفي لجنة الامتحان، فالامتحان منعقد، وعواقب أعمالنا محجوبة عنا، ولا تنكشف إلا في الدار الآخرة التي هي دار ظهور النتائج، ومع ذلك زودنا الله سبحانه وتعالى بأسباب النجاة والنجاح والفوز العظيم، وأوضح لنا السبيل الذي يوصلنا إلى الجنة دار القرار، وأخذ منا الميثاق حين استخرجنا من صلب آدم عليه السلام، وفطرنا على التوحيد الخالص، ومنحنا العقول والأسماع والأبصار لنهتدي بها، ومع كل هذا تضمن وتكفل أنه لا يعذب أحداً حتى تقام عليه الحجة الرسالية.
والشيطان له أساليب متنوعة لجر الناس إلى النار، وابن القيم له كلام رائع في مدارج السالكين في شرح هذه العقبات السبع التي يحاول الشيطان أن يجر الناس بها إلى النار، فأعظم أمنية يتمناها الشيطان أن يوقع الإنسان في الكفر، فإن عجز ينتقل به إلى البدع، فإن عجز فإلى الكبائر، فإن عجز فإلى الصغائر، فإلى المباحات، فإلى تقديم المفضول على الفاضل.
ولو سألنا أي آية في كتاب الله عز وجل هي أخوف؟ لوجدنا العلماء يختلفون في هذا اختلافاً كثيراً، وربما بعضهم يقول مثلاً هي قوله:{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}[الحج:١٩] وبعضهم يقول: هي قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}[الرحمن:٣١] لكن قال بعض أهل العلم: أخوف آية في القرآن هي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:١٠٣ - ١٠٤] يجتهد الرجل في العبادة ما شاء الله أن يجتهد، ثم يفاجأ في يوم القيامة بأنه ليس فقط خاسراً لكنه من الأخسرين أعمالاً، بصيغة (أفعل) التفضيل! (بالأخسرين أعمالاً) فهم أشد الناس خسراناً، والله تبارك وتعالى قال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}[الغاشية:٢ - ٤](عاملة ناصبة) كانت تكد وتكدح في العبادة في الدنيا، ومع ذلك انظر إلى مصيرهم في الآخرة! وكما يحرص العبد على حسن صلاته وعبادته، ويحرص على أن يتجنب الخنا والخمر؛ فلا بد أن يحرص على سلوك الصراط المستقيم، يقول تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف:١٠٨]، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام:١٥٣] هؤلاء الخوارج تقرحت جباههم، وتيبست أقدامهم من شدة الاجتهاد في العبادة، ومع ذلك هم كلاب النار؛ لأنهم انحرفوا في الأصول، وكانوا من الفرق النارية.