[كلام شيخ الإسلام في التفريق بين كفر النوع وكفر المعين]
يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
ولا تعارض بين هذا وبين قول بعض العلماء: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر.
وقال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
وقال بعضهم: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا ويلقوا، ولا يدفنوا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحهم أهل الإسلام ولا أهل الكتاب؛ فهذا الكلام في كفر النوع، أما كفر العين -وهو الشخص نفسه- فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع.
يقول شيخ الإسلام: ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين.
والإطلاق مثل أن تقول: من قال كذا فله عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو كافر أو من أصحاب النار فهذا لا يجوز إلا بنص من الوحي، حتى الكافر الموجود الآن مثل كلينتون أو بوش أو أي كافر لا تقول: هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري ما خاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار.
يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠].
فهذه الآية مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن عندما تتكلم عن رجل أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك.
كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا، مثل: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، مثل قول بعضهم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
قد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة سواء كان هذا الفعل كفراً أم دون الكفر، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠].
إذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يطلع عليها إلا الله.
ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بحسنات ماحية، فهو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد.
ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بها تكفر عنه ما استحقه من الوعيد.
وإن لم يكن فعل هذا ولا هذا ولا ذاك فيمكن أن يلغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة من النبي عليه الصلاة والسلام أو الملائكة أو قريب له شهيد أو أحد من إخوانه المؤمنين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، والشفاعة في الآخرة أنواع.
ويشترط في التكفير أن يقول القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان جاهلاً لا يكفر، كشخص أسلم -مثلاً- في أمريكا أو كندا أو في أي مكان من الأرض، وأتى إلى بلاد المسلمين وهو يقول: الدين ليس فيه صلاة، ولا يوجد في الدين شيء اسمه الصيام أو ينكر تحريم الخمر أو أي شيء معلوم من الدين بالضرورة، فهذا القول بحد ذاته كفر، لكن هذا الرجل قد يكون صدر منه هذا بسبب أنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في مكان بعيد عن أهل الإسلام، ولا يعرف هذه الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة، فمثل هذا لا يكفر حتى ولو كان قوله كفراً، ولا ينبغي أن يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة على يد إمام عالم، وهو مقتنع بأنه عالم، فيأتي إمام عالم يملك الحجة، ويستطيع أن يدفع عنه جميع الشبهات، حتى لا يبقى له ما يدفع الحق أبداً، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، فتراه يردد كلام بعض الجهلة الذين ينكرون السنة النبوية كلها أو بعضها أو أقساماً منها، فهو يردد ما قاله هؤلاء الضلال المبتدعون وهو مخدوع بتضليل أهل البدع، فربما يكون لم يسمع بالنصوص أو سمع بعضها ولم تثبت عنده في اعتقاده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في نفس هذا الموضوع: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً مطلقاً كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
مثاله: من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب؛ فلا يكفر كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل الله على رسوله إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع.
يعني: كلام الجهمية كفر، ولكن الجهمية ليسوا كفاراً، وأغلب مقالاتهم هي من هذا النوع.
إذاً: يجب التفريق بين كفر النوع وكفر العين، وهذه هي وظيفة القاضي الشرعي أو العالم أو الإمام الذي يستطيع فعلاً إقامة الحجة ومحاسبة الناس والحكم عليهم.
يقول: ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما الرب تبارك وتعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة وإنما يردونها بالتحريف.
الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، يعني: يلزم من مذهبهم جحد وجود الله، وتعطيل الصانع سبحانه وتعالى، وإن كان منهم من يرى أن هذا لا يلزم، فيقول: هذا لا ألتزمه، ويؤمن بوجود الله، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر إنكار الله.
الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها، وأهل الفطر السليمة كلها.
فمثلاً: فوقية الله سبحانه وتعالى، هذه الصفة متفق عليها عند كل أهل الملل، فأنا كنت أتكلم مع رجل كافر علماني، فكان وهو يتكلم بكلام يقول: الله ويشير إلى أعلى، وهو أصلاً لم يتدين بأي دين، وكان يتكلم اللاتينية.
فصفة الفوقية مفطور عليها كل أهل الملل، فاليهود والنصارى والمسلمون متفقون على مثل هذه الصفات، والجهمية يخالفون حتى الأشياء التي يتفق عليها أهل الفطر.
ويقول شيخ الإسلام: وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك.
يعني: من ثبت إسلامه بيقين لم يزل عنه وصف الإسلام بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة، فالناس إما مؤمن وإما كافر، وليس هناك مرتبة بين المرتبتين أو منزلة بين منزلتين أو ما يسمونه الآن بالتوقف، الناس إما مؤمن أو كافر، حتى المنافق في الدنيا تجري عليه أحكام الإسلام وإن كان في الحقيقة زنديقاً كافراً، فالمسلم قد يريد بشيء من أفعال الكفر، وقد يعذر بهذه الأعذار كجهل أو تأويل أو إكراه أو غير ذلك، فلا يحكم بكفره، ولا نتوقف فيه، لكن نستصحب الأصل الذي ثبت لنا يقيناً، وهو أنه من أهل الإسلام، فلا يزول عنه ذلك الوصف بالشك، بل يزول بيقين مثله.
وقال شيخ الإسلام: وسبب هذا التنازع -يعني: تنازع أهل السنة في تكفير الجهمية بأعيانهم- تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً.
يعني: القول قول كافر، لكن حال الرجل يجيب علينا: لست بكافر، فتعارض الدليلان.
وهذا مثل من يأخذ بعموم الوعيد في القرآن والسنة، وهم أيضاً أخذوا بعموم كلام الأئمة، مثل قولهم: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.
ويقول: كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل ما قاله، فمن قال كذا فهو كافر، فهذه صفة عامة، لكن هذا اللفظ لا يشمل كل من قاله، فليس كل من قال بالقول يكون كافراً بعينه، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق معين.
لأن التكفير المطلق لا يستلزم تكفيراً معيناً إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ويبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.
يعني: أن الإمام أحمد مع أنه كان يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، كيف كان موقفه الفعلي من الخلفاء العباسيين المعتزلة؟ كان يرى إمامتهم، ولم يخرج عليهم، وكان يصلي خلفهم، وكان ينادي الخليفة بأمير المؤمنين.
والإما