لنتأمل كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأن مثل هذه المسائل والأمور إذا طرقت بعض الناس فإنهم يهيجون ويصخبون ويموجون، ويقولون: الإسلام ضائع وأنتم تتكلمون في إسبال الإزار! هل تقصير الإزار هو الذي سوف يحرر فلسطين؟! إسبال الإزار سيفعل كذا؟! وهذا من كلام متفيهقة هذا الزمان!! عن
الشريد:(أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف)، أي: رأى رجلاً من ثقيف يمشي، فتبعه (حتى هرول في أثره) يريد أن يلحقه ويدركه، فهرول وجرى في أثر هذا الرجل طالباً إياه (حتى أخذ ثوبه) فلما أدركه أخذ ثوبه حتى يوقفه ويكلمه، فقال:(ارفع إزارك، فكشف الرجل عن ركبتيه)، أي: ليبين له سبب إسباله لإزاره، (فقال: يا رسول الله! إني أحنف، وتصطكّ ركبتاي)، وهذا شيء من خلقة الله سبحانه وتعالى في هذا الرجل، فكأنه بإسباله لإزاره يستر ذلك الأمر؛ لأن ركبتيه كانت تصطدم بعضهما في بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كل خلق الله عز وجل حسن) يعني: ما يضرك من ذلك؛ فإن أي صفة من خلق الله سبحانه وتعالى فهي تكون على أحسن ما يكون، وهذا مفهوم من المفاهيم الضرورية جداً، ويجب أن نتيقن هذا الأمر، فإن كل خلق الله سبحانه وتعالى بأي هيئة فهو حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:٨٨]، وقال عز وجل:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}[غافر:٦٤]، وقال سبحانه وتعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:٨]، وقال عز وجل:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:٤]، وقوله:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:٧٠].
ثم يتفاوت الناس بعد ذلك فيما يمنح الله هذا من صفات الجمال أو من الصفات الأخرى، فهذا رزق الله سبحانه وتعالى، وهذا خلق الله مع أنه قد يتفاوت، لكن الأصل أن كل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى حسن.
فلا يعيب الإنسان خلقاً من خلق الله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي كان يستحي أن تظهر رجلاه وبهما حنف:(كل خلق الله عز وجل حسن)، قال الشريد: فلم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهو قد كان أطال الإزار؛ لأن ساقيه كانتا نحيفتين، وتصطدمان ببعضهما، فظن أن من العار إظهارهما! فإذا كان هذا عذر هذا الرجل فما بالك بمن ليس له مثل هذا العذر؟! وعن عمرو بن فلان الأنصاري قال:(بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصيته)، وهذا من الاستنكار والحزن على هذا الأمر، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بناصية نفسه، (وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، يقصد التواضع لله سبحانه وتعالى؛ لأنه رأى هذا الإسبال تكبر ومخيلة، فأراد أن يتواضع، وهذا كان خُلُقه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه لما جاء مكة فاتحاً دخلها مطأطئاً رأسه راكباً على ناقته تواضعاً لله سبحانه وتعالى في بداية هذا الفتح المبين، كذلك لمّا رأى هذا الرجل وقد أسبل إزاره علم أن هذا خُلُق المتكبرين، وخلق الاختيال والبطر، فلذلك أقبل وأسرع حتى لحق عمراً ووضع يده على ناصيته وهو يقول:(اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك) يعني: أنا عبد متوغل في صفة العبودية، فأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وكلنا عبيدٌ لك، يعني: يقصد التواضع والتذلل بين يدي لله سبحانه وتعالى، والتبرؤ من هذا الفعل الذي هو من المخيلة.
ففهم عمرو أنه يقصد استنكار ما هو عليه من الإسبال، قال عمرو:(قلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين) يعني: دقيق الساقين ورفيعهما، (فقال: يا عمرو! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو، أي: قاس تحت الركبة مسافة أربع أصابع، فقال:(يا عمرو! هذا موضع الإزار) ثم رفعها ووضعها تحت الثانية، فقال:(يا عمرو! هذا موضع الإزار)، فهذا الحديث كالذي قبله، يصعب أن نحمله على الخيلاء؛ لأنه جاء هذا الحديث والذي قبله في صحابيين لم يقصدا الخيلاء، ولكن ذكرا علةً معينة لتغطية ساقيهما، ومع ذلك لم يعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهذان الصحابيان كانا بعيدين عن المخيلة، وكان لهما عذر، فلم يعذرهما النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرهما برفع الإزار.
وهناك أحاديث كثيرة في ذم إسبال الثياب، وذم الإسبال يستثنى منه بعض الحالات، مثل النساء كما سيأتي إن شاء الله في الأحاديث، ويستثنى أيضاً من به جرح في الكعبين، فقد يؤذيه الذباب أو شيء من الحشرات، فيجوز له أن يغطي الجرح حتى يشفى منه، فقد أباح العلماء بعض هذا.