للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي]

ثم يناقش بعد ذلك انتقال نظرية السيادة إلى العالم الإسلامي يقول: لقد كانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الوحيدة التي يقضى بها، ويتحاكم إليها في بلاد المسلمين، وقد يتهاون بعض الناس أو الحكام في التزام أحكامها، ولكن هذه الانحرافات لم تتجاوز على الجملة دائرة التنفيذ العملي لبعض الأحكام الشرعية، ولم تتعد ذلك إلى دائرة التشريع بحال من الأحوال، يعني: كان يحصل فساد من الجهة التنفيذية، لكن من جهة التشريع كانت الراية مرفوعة دائماً للتحاكم إلى الشريعة الإسلامية، بل ظلت الشريعة دينهم الذي به يدينون، ودعوتهم التي إليها يردون عند التنازع، ويتحاكمون إليها عند الاختلاف، ولم يحدث أن استبدلت الأمة بها شريعة أخرى عبر تاريخها الطويل، ثم أخذ الوهن يدب في جسم هذه الأمة، فضعفت شوكتها، وذهب ريحها، واجتمع عليها عدوها فغزا ديارها، وأوضع خلالها، وبث فيها سمومه، ونشر فيها كفره ورجسه فتنة لها في الدين، وتكريساً لما آلت إليه من تصدع وانكسار، وكان من بين المناهج الغربية التي غزت بلاد المسلمين نظرية السيادة التي سبق أن بيناها تحت ستار من التحرير، ومقاومة الطغيان، ووصف جوقة من العزف على نغمة حقوق الإنسان، ثم عرفت هذه النظرية طريقها إلى الدساتير العربية والإسلامية بعد أن أقصيت الشريعة، وألغيت أحكام الإسلام من قوانين هذه البلاد، فكانت هذه النظرية هي الحلقة الأخيرة في مسلسل إقصاء الشريعة وفصل الدين عن الحياة.

وتتجسد مظاهر السيادة التي نصت هذه الدساتير على تقريرها للأمة أو الشعب في ثلاثة مظاهر رئيسية: الأول: السلطة التشريعية.

الثاني: السلطة التنفيذية.

الثالث: السلطة القضائية.

أما السلطة التشريعية: فدورها سن القوانين التي يتحاكم إليها في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شئون الحياة.

الثاني: السلطة التنفيذية، ووظيفتها: المحافظة على النظام العام، والسهر على حماية هذه القوانين.

الثالث: السلطة القضائية، ووظيفتها: حل المنازعات والفصل في الخصومات، وفقاً للقوانين الصادرة من السلطة التشريعية.

وباستقراء الدساتير الصادرة في البلاد الإسلامية نجد أن هذه النظرية قد تم النص عليها صراحة في هذه الدساتير، كما أنه باستقراء الواقع العملي في هذه البلاد نجد أن إقصاء الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية هو السمة البارزة على أنظمة الحكم فيها، وأن فصل الدولة عن الدين هو الواقع العملي المستيقن في ظل هذه النظم، وإن كان النص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، ولا يزال موجوداً في أغلب هذه الدساتير، الأمر الذي يؤكد أن تطبيق الشريعة وتقرير السيادة والتشريع للأمة أو الشعب نقيضان لا يجتمعان أبداً في نظام من الأنظمة، ولا في أمة من الأمم.

ثم يضيف ملمحاً جديداً وهو: أن رؤساء الدول يعتبرون أعضاء أصليين في السلطة التشريعية، والبرلمان الذي ينتخب بالصورة المعروفة هو سلطة تشريعية، لكن رئيس الدولة أو الملك في بعض البلاد يكون عضواً أصلياً في السلطة التشريعية لما له من حق الاقتراح وحق الإصدار، وحق الاعتراض أو التصديق، ومن هذه الحقوق ما يشتركون فيه مع غيرهم كحق الاقتراح، ومنها ما يستقلون به كالحق في التصديق على القوانين بعد إقرارها من السلطة التشريعية، أو الحق في الاعتراض على القانون، أو إعادته إلى البرلمان لمراجعته، والتصويت عليه مرة أخرى بأغلبية خاصة.

وقد نصت بعض الدساتير صراحة على اعتبار رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية، ومنها ما اكتفي بالنص على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع، وهي حق الاقتراح والإصدار، وحق الاعتراض أو التصديق.

فمثلاً: الدستور الدائم لمصر ينص على هذا الحق لرئيس الدولة، الذي هو التشريع في حالة تعطيل الحياة البرلمانية، إذا كان الأصل هو أن يمارس رئيس الدولة اختصاصاته التشريعية بالتعاون مع البرلمان، فقد تعرض بعض الحالات يستقل فيها رئيس الدولة بممارسة الوظيفة التشريعية وتتمثل فيما يلي: أولاً: التشريع في حالة تعطيل الحياة البرلمانية، مثلما كان يفعل السادات حيث يعطيه إجازة يوم الجمعة، ويصدر القانون الجمعة، فيبقى رئيس الدولة له الحق أن يشرع كما سار على نفس النسق الدستور المؤقت للجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية إلى آخره.

ثانياً: التشريع فيما بين أدوار انعقاد البرلمان، يعني: عند تعطيل الحياة البرلمانية الرئيس له أن يشرع ما شاء من القوانين، والنظام النيابي يقوم على توقيت البرلمان بمدد معينة يعود الأعضاء بعدها إلى الشعب ليجددوا انتخابهم، أو يسحبوا منهم ثقتهم، كما أن البرلمانات لا تنعقد باستمرار، بل يتخللها فترات من الراحة، فإذا حدث أمر طارئ لا يمكن مواجهته إلا بقانون كان لرئيس الجمهورية أن يصدر مراسيم لها قوة القانون على أن يعرضها على البرلمان عند انعقاده ليقرر في شأنها ما يشاء، وهذا نص الدستور في المادة (١٤٧).

ثالثاً: التشريع بتفويض من البرلمان، فالبرلمان هو الذي يفوض الرئيس أن يشرع، فمعظم الدساتير العربية تجيز هذا التفويض وتقيده ببعض القيود التي تمنع من اللجوء إليه إلا عند الضرورات، وإن كان الفقهاء القانونيون يضيقون ذرعاً من هذا الأسلوب، ويرون فيه تخلياً من البرلمان عن وظيفته الأصلية، كما لا يرون له الضرورة التي تسوغه كما في الحالتين السابقتين، يعني: هنا في دستور مصر مادة (١٠٨) لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الأحوال الاستثنائية بناءً على التفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه أن يصدر قرارات لها قوة القانون، ويجب أن يكون التفويض لمدة محدودة، وأن تبين فيه موضوعات هذه القرارات والأسس التي يقوم عليها، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء التفويض، فإذا لم تعرض أو عرضت ولم يوافق عليها زال ما كان لها من قوة القانون.