قال ابن السبكي رحمه الله: وفي عام (٤٦٥هـ) -وكان عمره حينئذٍ خمسة عشر عاماً- بدأ الغزالي يدرس الفقه على أحمد الراذكاني بطوس، ولما تمكن من العلم سافر إلى جرجان ليطلب المزيد من العلم على يد الشيخ أبي نصر الإسماعيلي، وعلق عنه التعليقة، ثم قدم نيسابور ونزل هناك على إمام الحرمين الجويني، وجد واجتهد حتى برع في العلوم، ووقف على الخلاف والجدل والأصلين -يعني أصول الدين وأصول الفقه- والمنطق، وقرأ الفلسفة وأحكم ذلك كله، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم.
وقد أظهر إمام الحرمين الجويني عناية خاصة به لما ظهر له فيه من بوادر النبوغ السريع، حتى كان الإمام الجويني يصف الغزالي بأنه البحر المغرق، وقد لازمه الغزالي مدة انتهت بوفاته سنة (٤٧٨هـ).
لقد كان هذا التلميذ النابغ للإمام الجويني يمضي نحو تألقه وسطوعه بخطوات سريعة، فقد ألف كتاباً في أصول الفقه أسماه: المنخول من علم الأصول، غطى هذا الكتاب على أستاذه حتى قال له شيخه الجويني لما رآه وقرأه: دفنتني وأنا حي هلا صبرت حتى أموت! يقول ابن عساكر نقلاً عن عبد الغافر -وهو أحد تلامذة الغزالي - في ترجمته: ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان، وجد واجتهد حتى تخرج في مدة قريبة، وبز الأقران -يعني: تفوق على أقرانه- وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه في المناظرة، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، وكان الطلبة يستفيدون منه ويدرس لهم ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف.
وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في النطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً لإنافته عليه في سرعة العبارة وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف، فكان الشيخ يجد حرجاً من أن يتصدر تلميذه لتأليف الكتب، وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر، ولكنه يظهر التبجح به والاعتزاز بمكانه ظاهراً خلاف ما يضمره.
ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، ثم عهد إليه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد فقبل ذلك، وكان ذلك سنة (٤٨٤هـ) ولم يكن تجاوز فيها الرابعة والثلاثين من عمره.