[الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام]
ومن المواضع التي يستفاد منها كثير من الأدب في القرآن الكريم -وما أكثر الآداب في القرآن الكريم- قصة موسى والخضر عليها السلام، حينما قال موسى للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:٦٦] فهذه الآيات في هذا الموضع في القرآن الكريم تبين لنا أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فمادمت تريد أن تتعلم وأن تستفيد فلابد من مراعاة هذه الآداب: أحد هذه الآداب أنه جعل نفسه تبعاً له، فقال له: (هل أتبعك) بخلاف من يذهب إلى الشيخ وإذا به يناطحه رأساً برأس وكلمة بكلمة، ويجلس متربصاًً كي يقذف سهام الاعتراض والتجاوز على شيخه، لكن انظر كيف أن نبي الله موسى كليم الله يرحل هذه الرحلة الشاقة التي يقول في شأنها: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:٦٢]، وذلك في سبيل طلب العلم، ففي في سبيل طلب العلم رحل موسى هذه المسافة الكبيرة.
فلما لقي الخضر عليه السلام قال له: (هل أتبعك)، فموسى جعل نفسه تبعاً لمن يريد أن يتعلم منه.
ومن هذه الآداب أيضاًَ أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، ولم يقل له: أنا تابع لك.
وإنما تلطف واستأذن فقال: (هل أتبعك) يعني: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وبلا شك أن هذه مبالغة عظيمة في التواضع من موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وأيضاً قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف:٦٦] فهذا يتضمن الإقرار على نفسه بالجهل، وإقراراً لأستاذه بالعلم، فهناك عالم وهناك متعلم مفتقر إلى هذا العلم ولذلك قال موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:٦٦] فأثبت أنه طالب علم مفتقر إلى ما عنده من العلم، ثم قال: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:٦٦] و (من) هنا للتبعيض، يعني: من بعض ما علمك الله سبحانه وتعالى.
فهذا أيضاً -بلا شك- مشعر بالتواضع، وكأنه يقول له: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من ماله.
وأيضاً قال موسى عليه السلام: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:٦٦] إشارة إلى الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه ذلك العلم، وفي ذلك نسبة الفضل إلى صاحبه والمفيض به وهو الله عز وجل، وقوله: {رُشْدًا} [الكهف:٦٦] هذا طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل للإنسان لحصلت له الغواية والضلال.
وقوله: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:٦٦] طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، ولم يقل: أن تعلمن مما تعلمت.
أو: تعلمن مما عندك من العلم.
وإنما أشار إشارة عظيمة جداًَ هنا فقال: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:٦٦] وفي هذا إشارة في غاية التهذيب والأدب والتواضع، أي أنه كما علمك الله فعلمني مما علمك الله.
يعني: عاملني بجنس ما عاملك الله به، فبما أن الله أفاض عليك بهذا العلم فقابل أنت هذه النعمة بالشكر بأن تفيض علي أيضاًًَ مما علمك الله.
ولعل هذا هو حكمة قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ} [الكهف:٦٦] وعدم قوله: مما عندك من العلم.
أو: مما تعلمت.
وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا شاع في العبارة المشهورة على ألسنة الناس: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً.
أو: من علمني حرفاً صرت له عبداً.
وطبعاً ليس معناها العبودية التي هي عبودية من دون الله، لكن المقصود العبد الرقيق، يعني أنه يملكني كالعبد أو الرقيق.
كما أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا تكون متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، وإنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وسلم أتى بها، ولا جرم حينئذ أننا يصدق علينا الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا مختصون بتبعيتنا له، قال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:١٥٨] وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، وفي هذا أمر لنا بالاتباع.
فقول موسى عليه السلام: (هل أتبعك) يدل على أنه سيأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض فيما لا يصادم الشرع مصادمة صريحة.
كذلك قوله: (أتبعك) يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء.
وأيضاً ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه من بني إسرائيل؛ لأن موسى لما أتى إلى الخضر عليه السلام قال له: من أنت؟ قال: موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ فالخضر عرف أن الذي يحادثه هو من بني إسرائيل، وأنه موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد؛ لأنه يعرف قيمة العلم.
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أدبني الدهر فأراني نقص عقلي كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي وكذلك في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف:٦٦] أثبت كونه تبعاًً له أولاً، ثم طلب ثانياً منه أن يعلمه.
وكذلك قال موسى عليه السلام: (هل أتبعك على أن تعلمن)، فلم يطلب على تلك المتابعة شيئاً غير التعليم، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرض لي إلا طلب العلم.
وهذا هو محصل ما ذكره الفخر الرازي في هذا الباب، حيث ذكر الآداب المستقاة من قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.