حينما نتحدث عن موضوع التربية وخطورة موقع الأسرة يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولا بد من أن نكون أكثر تحديداً في ألفاظنا، وفي ربط المهام وإناطتها بالمسئولين عنها، فإذا كنا نقول: إنه لا مخرج من الوضع الذي نحن فيه إلا بالتربية فإننا نتدرج إلى القول بأن البيت هو أول مؤسسة تربوية، ثم لا بد أن نكون صرحاء، ونجزم أيضاً بأن الأم هي العماد في العملية التربوية، فإن الواقع الذي نعيشه يؤكد خطورة موقع الأم اليوم في عملية التربية أكثر من الرجل، وفي الواقع الذي نعيشه ربما بعض الناس تكون نفوسهم مهيأة لأن يتبوأ الرجل منصبه الطبيعي، وذلك بقوامته وأنه القيم على كل شيء، بما في ذلك تربية الأولاد، هذا هو المطلوب، وربما بعض الناس يحظون بمثل هذا، لكن الواقع الذي تعيشه عامة الأمة الآن هو أن عملية التربية صارت بسبب أن الأب في الغالب في خارج البيت يكابد مشاق الحياة ويكدح بحثاً عن الرزق الحلال من أجل أن يوفر نفقة البيت ونفقة الأولاد، ويغلب على الأسر الآن في العام الأغلب إهمال الآباء لمسئولياتهم التربوية، فمن حيث الواقع صارت الأم هي المتولية لعملية التربية.
إذاً إذا لم تكن الأم من الأمهات الهاربات، والأم الهاربة هي التي يسمونها الأم العالمة العاملة، فالأم هذه في الحقيقة ليست عاملة؛ لأن عملها في بيتها، وهذه الوظيفة هي أخطر وأقدس وظيفة على الإطلاق، فهذه امرأة هاربة من محل وظيفتها الأساسية وليست امرأة عاملة.
ومما يرشح وظيفة الأم ويؤكد خطورتها أن الأم أكثر ملازمة للطفل من الأب، كذلك الأم أقدر من الأب على معايشة الطفل وتلبية احتياجاته بحب وحنان فطري غرسه الله سبحانه وتعالى في قلبها، فهي تضحي بكل شيء حتى بحياتها في سبيل ولدها الذي هو قطعة من بدنها، ولذلك يلاحظ عندما يرجع الأب من العمل منهك القوى مكدوداً من سعيه في طلب الرزق الحلال أن كل همه أن تكف الأم الضوضاء التي يحدثها الأولاد؛ لأنه يريد أن يستريح أو ينام أو يأكل، فتراه يقول: كفي عني شر هؤلاء الأولاد وضوضاءهم.
بخلاف الأم فإنها تكون راضية مطمئنة، فالأم طول عمرها لا تشتكي أبداً، بل تضحي بكل أنواع التضحية، أما الأب فربما إذا كلفته الأم أن يحمل الرضيع -مثلاً- لدقائق معدودات فإنه يضج، وليس عنده صبر في الغالب على مثل هذا، إلا من شاء الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الصبر، ومن أجل ذلك نوه القرآن بمكانة الأم، كما في قوله عز وجل:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:١٤]، فالأم عبارة عن موظف متفرغ تماماً لهذه الوظيفة الخطيرة، والوظيفة الأساسية للأم بعد عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته هي رعاية الأطفال وتربيتهم.