[موعظة أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه للتابعين]
يقول: وإذا بصاحبنا يقرأ كلمة قالها الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، الذي عاش فترة مع التابعين فرأى حالهم أقل من حال الصحابة، فنصحهم نصيحة أحس هذا الأخ أنها موجهة إليه وإلى الإخوة في عصرنا هذا، قرأ هذا الأخ كلمة أبي الدرداء رضي الله عنه، فإذا به يقول فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولهانت عليكم الدنيا، ولآثرتم الآخرة)، ثم قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه من قِبَل نفسه: لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات -أي: إلى الطرقات- تجأرون وتبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعملون، فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته، مالكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله،؟! ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، لو اجتمعتم على البر لتحاببتم.
مالكم تناصحون في أمر الدنيا، ولا تناصحون في أمر الآخرة، ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته؟! ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، ولو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة؛ لأنها أملك لأموركم.
فإذا قلتم: حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها، تكدون أنفسكم بالمشقة، والاحتراف في طلب أمر لعلكم تدركونه، فبئس القوم أنتم، ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم، فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فأتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم.
والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم.
أي أنّ عقولكم كاملة، وتستطيعون إعمالها في البحث عما يصلحكم.
قال: إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم، وتأخذون بالحزم في أموركم، فما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه، وتحزنون على اليسير منها يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم.
يعني: إذا خسر الإنسان مالاً يسيراً جداً يحزن عليه حزناً شديداً، وإذا اكتسب مالاً يسيراً جداً فإنه يفرح فرحاً شديداً.
قال: ويظهر على ألسنتكم، وتسمونها بالمصائب، وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم، ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم.
أي: إذا قصر في الدين لا يقيم مأتماً، ولا يحزن، ولا ينفعل، ولا يتغير حاله، كما قال أبو بكر بن عياش: مسكين محب الدنيا؛ يسقط منه درهم فيظل نهاره يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وينقص عمره ودينه ولا يحزن عليه! تراه إذا مرت عليه سنة جديدة يقيم حفل عيد ميلاد، ولو فقه لأقام مأتماً؛ لأن ذلك معناه أنه يقترب من القبر أكثر، فهو يولد بقدر محدد من العمر والأيام والأنفاس، فالعمر ما هو إلاّ أَنْفُس، والمسكين يقيم احتفالاً يسميه حفل عيد الميلاد، وهو لو فقه لكانت هذه مناسبة غم وهم؛ لأنّه يقترب بذلك إلى القبر والآخرة.
وصدق الشاعر إذْ يقول: فطنٌ بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر ويقول أبو الدرداء: إني لأرى الله قد تبرأ منكم، يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره.
يعني أنّ الواحد منكم يبش في وجه الآخر، وليس فيكم من يتمعر وجهه غضباً إذا رأى على أخيه معصية، ويخاف أنه إذا أنكر عليه ونصحه في دينه أنه سيفقد صحبته، أو يعكر عليه صفوته، وبالتالي يؤثر هذا في المودة التي بينهما، فيداهن بعضهم بعضاً، ويدافع معور عن معور، فكل واحد فيه عيب، فيخاف أنّه إذا نصح أخاه فسيأخذ عليه أخوه عيباً من عيوبه، وحينئذٍ يكون هناك تعايش سلمي وحياد، فلا يتدخل أحد في نصيحة الآخر حتى ولو كان ذلك على حساب الدين.
يقول: إني لأرى الله قد تبرأ منكم، يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله، فاصطحبتم على الغل، ونبتت مراعيكم على الدمن، وتصافحتم على رفض الأجل، ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته، ولو كان حياً لم يصابركم، فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم، وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً، وبالله أستعين على نفسي وعليكم.
يقول الكاتب: فانزعج الأخ من هذه الوصية؛ لأنه علم أنه هو المقصود بها، وكثير من إخوانه كذلك، فبكى على نفسه، وانهمرت دموعه على خديه، وترك نصيحة أبي الدرداء بعد أن زلزلته، فإذا به يقرأ نصيحة سيد التابعين الحسن البصري رحمه الله وهو ينصح الناس، ويصف داءهم بقوله: أيها العبد الآبق! عُد إلى مولاك، فإن مولاك يناديك بالليل والنهار: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) وأنت عنه معرض، وعلى غيره مقبل، لقد هُضمت كل الهضم، وخسرت أكبر الخسران.
انتبه أيها الغافل؛ فإنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
يقول: فاشتد انتحاب صاحبنا على نفسه وعلا صوت نشيجه، وإذا به يسمع صوتاً يقرأ قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) فهتف صاحبنا بأعلى صوته وهو يبكي: بلى لقد آن يا رب، لقد آن يا رب.
وتغيرت معالم حياة هذا الأخ بعد هذه اللحظة، فبدأ في تنظيم أوقاته، وبدلاً من أن يجعل لله عز وجل أوقات فراغه وضع لنفسه أوقاتاً ثابتة للقرآن، وبدأ يحافظ على الطاعات من صيام وقيام ونحوها، وعاد مرة أخرى إلى دروس العلم في المساجد، وبدأ يأنس بذكر الله ويتحين الأوقات لكي يخلو بالله ويناجيه.
ونظر صاحبنا بعد فترة من هذا التغيير إلى دنياه، فوجد أنه قد أصبح يرضى بالقليل، ووجد البركة في هذا القليل، وبدلاً من أن يتعامل مع الأسباب وكَلَ أمره إلى الله، واثقاً أن الرزق بيده، وتذكر صاحبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
ويؤتي بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)، فحمد الله أنه بدأ في العودة إلى طريق أهل الجنة قبل فوات الأوان.
ثم نظر إلى تجارب السابقين، فعلم أن أي إنسان مهما أوتي من تقوى وعلم فلن يستطيع أن يسير بمفرده، إلا من رحم الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)، فعلم أنه لا بد لكل أخ ينشد التحسن والازدياد في دينه أن يتخذ لنفسه مجموعة من الإخوة مهما صغر عددها من ذوي الهمة العالية في أمور الدين، فيعين بعضهم بعضاً على الطاعات، ويتواصون فيما بينهم على الذكر والصيام والقيام والإنفاق واجتناب المحرمات، وإذا نسي أحدهم شيئاً ذكره الآخرون.
فمضى صاحبنا يبحث فيمن حوله من الإخوة عن هذه النظرية التي كان يظن قبل هذه الصحوة أنها غير موجودة، ضاناً أن كل الإخوة مثله، ودعا الله عز وجل أن يعينه في العثور عليهم، فوجدهم وفوجئ بأنهم قريبون منه، ولكن كانت الغشايات تملأ عينيه، وهي التي حالت دون رؤيتهم من قبل، فأسرع إليهم، وطلب منهم قبوله بينهم، فرحبوا به، فحمد الله تعالى لأنه بهذا قد بدأ في انتشال نفسه من الغرق.
لكن الألم لم يفارق قلبه؛ لأنه تذكر أن إخواناً كثيرين منكم لا يزالون غارقين كما كان غارقاً من قبل، فآثر أن يكتب تجربته لعل هؤلاء الغرقى ينتبهون لمصيرهم قبل فوات الأوان، قال الشاعر: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم يغرك ما يفنى وتُشغل بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم وتُشغل فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال الآخر: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس يوم القيامة لا مال ولا ولد وضمة القبر تنسي ليلة العرس فهلموا -يا إخواني- لنخرج الدنيا من قلوبنا، فنجعلها في أيدينا، ولنجدد العهد مع الله، ولنحاول اللحاق بالركب، فإن من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).