يقول الغزالي حاكياً عن خروجه من بغداد: ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من كل الجوانب، ولاحظت عملي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، فلم أزل أتردد بين تجاذب الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من تسعة أشهر، أولها رجب سنة (٤٨٨هـ)، ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري، أظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أضمر في نفسي سفر الشام؛ حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، ففارقت بغداد.
فخرج الغزالي يريد الشام في الباطن، وأظهر للناس أنه يريد الحج في الظاهر، ويبدو أنه كان تواقاً إلى العيش في الشام، والدليل على ذلك أنه عزم في نفسه على أن لا يعود إلى بغداد أبداً.
يقول: ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله؛ بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وسمعة.
فخرج الغزالي إلى مكة، فالمدينة، فدمشق، فالقدس، فدمشق، فالإسكندرية، ثم عاد إلى بغداد؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي تلميذه: رأيت الغزالي في البرية -وهي صحراء دمشق- وبيده عكازة، وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خيراً من هذا؟ فنظر إلي، ثم قال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول في مغارب الأفول تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل وعدت إلى تصحيح أول منزل ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي