يقول القرطبي: وهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}[الحديد:١٦] كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تبارك وتعالى.
وروى بسنده عن الحسن بن زاهر قال: سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، قال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا؛ وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعاً بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له: راشين السحر -لعله نوع من الموسيقى- وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد -أي: العود لا يجيب إلى هذا العزف-، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان -والعهدة على الراوي إن صح السند في ذلك- يقول:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد:١٦] قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري.
فإن صحت هذه القصة فهذه تكون إعانة من الله تبارك وتعالى لـ ابن المبارك على هذه الهداية والتوبة.
يقول القرطبي: وبلغنا أن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود ويغني به: ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما وماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرما وأما الفضيل بن عياض فمشهور عنه أكثر مما اشتهر عن ابن المبارك أن هذه الآية كانت سبباً في توبته، وذلك أن الفضيل كان يعشق جارية فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}[الحديد:١٦] فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: نسير الليلة، فقال آخرون: لا إن فضيلاً يقطع الطريق فانتظروا حتى الصباح، فسمعهم الفضيل رحمه الله، فقال: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام، فجاور في الحرمين، ولذلك سمي بعابد الحرمين رحمه الله تعالى.