للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإنفاق في سبيل الله]

ومن هذه الأسباب أيضاً: الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى: فهذا أحد مفاتيح الرزق التي يستنزل بها رزق الله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:٣٩]، فالإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء، والإنفاق لنصرة دين الله عز وجل، والإنفاق في الطاعات وعلى العيال والضيوف.

والأدلة على كون النفقة في سبيل الله عز وجل من أسباب استنزال رزق الله عز وجل كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:٣٩] يعني: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث، ولا يقتصر على الثواب في الآخرة، لكن يخلفه عليكم أيضاً في الدنيا، فالنفقة إذاً سبب لاستنزال الرزق.

ذبحت إحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام شاة، (فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة فقالت: ذهبت كلها وبقي الذراع لك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها وذهب هذا الذراع) أي أن الذي تنفقه في سبيل الله باق لك، ومدخر ثوابه عند الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦].

وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (ثلاث أقسم عليهن أو أحلف عليهن: -وذكر- ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة سبب للبركة فيما بقي من مال، ويخلف الله على الإنسان بدلها في الدنيا بجانب الأجر الذي يبقى له في الآخرة، {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:٣٩].

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

الله عز وجل ملكٌ مليكٌ عليٌّ غنيٌّ، فإذا قال: أنفق وعلي بدله، فبحكم الوعد يوجب على نفسه أن يعطي هذا البدل، وقد وعد الله فقال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:٣٩] ووعد الله حق، فإذا كنت تتعامل مع غني من البشر، فقال لك مثلاً: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وأنت تعرف من خلقه أنه لا يخلف الميعاد، وأنه يفي بوعده، فإنك يكون على ثقة من أنه سوف يفي بما وعدبه من هذا الضمان، فهل تفعل ذلك ثقة بوعده سبحانه، ولله عز وجل المثل الأعلى؟! فمن أنفق فقد أتى بما هو سبب في حصول البدل، لأنه قد أتى بالشرط، والله عز وجل اشترط على نفسه فقال: (أنفق أنفق عليك)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)، فهذا وعد بالإخلاف وبالتعويض وبالبدل، فمن أتى بالشرط أتاه البدل.

ومن بخل فالزوال لازم للمال، ولم يأت يما يستحق عليه البدل.

فقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:٣٩] يحقق معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

التاجر إذا علم أن مالاً من أمواله معرض للهلاك فإنه يبيعه نسيئة ولو على الفقراء، فلو افترضنا تاجراً يبيع فواكه أو خضروات، وهذا التاجر يحتاج إلى الربح الذي يجنيه من وراء هذه التجارة، وهو يشترط في البيع أن يكون حالاً، أي: لابد أن تدفع المال نقداًًً، ويرفض أن يبيع نسيئة، لكن إذا لم يشتر منه أحد، وكادت البضاعة تتلف، فإنه سيبيعها نسيئة إلى أجل، لأنه خير بين أن تتلف البضاعة وبين أن يبيعها نسيئة، فالعاقل يختار أن يبيعها نسيئة، ويقول: هذا أولى من أن أرميها في القمامة، وعندما يبيعها نسيئة سيحصل على المال ولو بعد حين، فإن لم يبع حتى يهلك نسب إلى الخطأ، ثم إن حصل على كفيل مليء ولم يبع له نسب إلى الجنون.

يعني أن هذا الرجل يريد أن يشتري منه إلى أجل، ولو لم يشتر البضاعة فسوف تهلك، وأتى رجل آخر مليء وقال للتاجر: أنا ضامن وكفيل على المشتري أنه إذا لم يسدد لك فأنا أسدد لك ثمن هذه البضاعة، وهذا الكفيل أو هذا الضامن غني ووفي، وفي الحديث: (من أحيل على مليء فليتبع)، فإذا حصل على كفيل مليء ولم يبع فينسب هذا الرجل إلى الجنون.

ثم إن كل واحد منا يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن الله سبحانه وتعالى يتكفل بالخلف وبأنه سيعوض من أنفق في سبيل الله، ومع هذا نجد عامة الناس يسلكون مسلك ذلك الذي يوصف بالجنون، وشتان بين ضامن مليء من البشر وبين الله سبحانه وتعالى الذي هو رب العرش، والذي هو غني عن العباد، الرزاق ذو القوة المتين.

لماذا لا تثق في وعد الله سبحانه وتعالى وهو يخبرك في القرآن أنه سوف يخلف عليك، وأنت مع ذلك تصر على أن تتلف بضاعتك وتزول دون أن تثاب فيها، وبدون أن تنال عليها أي أجر أو ثمن؟ كل واحد منا يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق، فالإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن المليء وهو الله العليم، فقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:٣٩]، ثم رهن عند كل واحد إما أرضاً أو بستاناً أو طاحونة أو حماماً أو أي متاع، فالله سبحانه وتعالى أعطاك المبلغ الذي تأخذ منه رزقك، هذا المبلغ سواء كان سيارة أو آلة أو مصنعاً أو متجراً أو غيره وكأنه يقول: إذا كنت غير واثق من ضماني الذي أضمنه لك بأني سأخلف عليك فضع هذا الرهن أمام عينيك حتى تكون مطمئناً للضمان.

كل الحرف التي عند أي واحد منا ما هي إلا من فضل الله سبحانه وتعالى، فهل هذا ملك لنا أم ملك لله؟ نحن لا نملك شيئاً على الإطلاق، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧]، ويقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣]، فالمال الذي بأيدينا في الحقيقة ليس مالنا إنما هو عارية عندنا، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فمع الضمان يأمرك سبحانه وتعالى أن تنفق، ويعطيك رهناً حتى تكون أكثر اطمئناناً، ويكون معك هذا المصدر من مصادر الرزق.

الإنسان لا بد أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال، وذلك ملك لله، وهو في يد الإنسان بحكم العارية، فكأنه مرهون بما تكفل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام، ومع هذا لا ينفق، ويترك ماله يتلف من غير أن يكون مأجوراً أو مشكوراً.

هذا وقد أكد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وعده لمن ينفق بالخلف عليه بثلاث مؤكدات: الأول: صيغة الشرط {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:٣٩]، الثاني: جعل جملة الجواب اسمية (فهو يخلفه)، الثالث: تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فقال: (فهو يخلفه) ولم يقل: فسأخلفه لك.

فوعد الله سبحانه وتعالى يقع حتى لو لم يقترن بهذه المؤكدات، فكيف وقد أكد بكل هذه المؤكدات.

ومن الأدلة على أن النفقة سبب من أسباب الرزق قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٦٨].

(يعدكم) بمعنى: يخوفكم، يقول لك: إياك أن تنفق وإلا افتقرت.

(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) أي: بالبخل، (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) على هذه المعاصي (وفضلاً) أي: في الرزق، وقال ابن عطية: المغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيها والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له.

يعني أن الشيطان عندما يقول لك: لا تنفق فسوف تفتقر، ليس مخلصاً لك في النصيحة ولا يريد لك الخير؛ لأنه عدو مبين، ولا حل مع الشيطان إلا أن تتخذه عدواً {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:٦]، هو عدو لا تصلح معه المداهنة ولا الإحسان ولا التلطف، لا يوجد مخرج في التعامل مع الشيطان إلا أن تعامله على أنه عدو مبين، فلا تثق بأي وعد من وعوده، وحينما يقول لك: لا تنفق وإلا ستفتقر فلا تثق بخبره، فإنه ليس مشفقاً عليك ولا ناصحاً لك، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا وإما في الدنيا والآخرة.

جاء في صحيح مسلم أن الله تبارك وتعالى قال: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنه قال: (إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها أخذها منهم ووضعها في غيرهم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فالبخيل الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى من ماله ثم لا ينفق على نفسه وعلى أهله وأولاده وعلى الفقراء والمساكين، ويريد أن يحافظ عليه، فهو فقير، قال ابن القيم: البخيل فقير لا يؤجر على فقره، والفقير أفضل منه؛ لأن الفقير يؤجر على الفقر، أما هذا فهو فقير لكنه لا يؤجر على فقره، يقول الشاعر في وصف البخلاء: خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا فما رزقوا فلاح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا وفي الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما، اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، أي: تلفاً لماله حساً أو معنى، إما يضيع المال أو تمحق البركة منه أو يسلط على نفقته فيما لا يعود عليه بالنفع، أو في أشياء مما يغضب الله سبحانه و