[إعفاء اللحية سنة وطريقة محمدية]
إن إعفاء اللحية سنة محمدية، فقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢١]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:٦٤].
وقال صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
وثبت في صفته الخلقية صلى الله عليه وسلم أنه كان كث اللحية عظيمها، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه).
وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر وفي العصر باضطراب لحيته، ينظرون إليه من الخلف وهو يصلي، وذلك عندما سئلوا (بم كنتم تعرفون قراءته؟ قالوا: باضطراب لحيته) يعني: باهتزازها، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
(وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته)، وهذا يدل على عظم لحيته عليه الصلاة والسلام بحيث أنه يحتاج إلى تخليلها.
والأحاديث في ذلك كثيرة كلها تؤكد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عظيم اللحية، فيا عجباً! ممن يدعون حبه صلى الله عليه وسلم ثم هم لا يحبون صورته، بل يفضلون عليه صورة أعدائه! والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١].
تجد الناس يتناقلون كلاماً لا يفقهون معناه، ويقولون: اللحية سنة، نعم هي سنة لكن بالمعنى اللغوي: الطريقة، أي: طريقة النبي عليه الصلاة والسلام، كما تقول: صلاة الجمعة سنة، يعني: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما حكمها من حيث الأحكام الخمسة التكليفية الخمسة؟ هي من حيث الأحكام الخمسة واجبة؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللأدلة التي سوف نذكرها.
يقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:٣١].
فالمحبة التي لا تضطر صاحبها إلى اتباع المحبوب والتشبه به ادعاء للمحبة، وليست بمحبة حقيقية، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه: (بينما أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أتقى لربك وأنقى لثوبك حتى لا يتسخ- فقلت: يا رسول الله! إنما هي بردة ملحاء -يعني: هذه الثياب التي ألبسها ثياب رثة أو رخيصة، لا يخشى منها أن يكون هناك كبر أو خيلاء حتى يراعى فيها الاتقاء والإنقاء- فقال له عليه الصلاة والسلام: أما لك في أسوة؟! قال: فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا الحديث حسن لغيره.
فيا حالق اللحية! ماذا يكون جوابك إذا أخذت تسرد المعاذير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لك: (أما لك في أسوة؟)؟! إذا كان إعفاء اللحية سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته فعلى هذا يكون حلق اللحية تطرفاً وانحرافاً عن هديه عليه الصلاة والسلام، وخير الهدي صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي الحقيقة هؤلاء المحاربون لدين الله والصادون عن سبيل الله والمشنعون على أهل طاعة الله هم المتطرفون كما ذكرنا ذلك من قبل مراراً؛ لأن معنى التطرف: هو الأخذ بأطراف الأمور، إما إلى الإفراط أو التفريط، إما إلى الغلو وإما إلى الجفاء، فكلاهما انحراف عن القسط والوسط والاعتدال الذي هو خاصية هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣].
فهذا هو الاعتدال، فنحن اختلفنا معهم في حد الوسط، وحد الاعتدال، فنحن نرفع عقيدتنا دائماً بهذا الشعار المقدس: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، لا يمكن أن يكون هناك هدي أحسن وخير من هديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هدي محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الهدي.
فكل ما شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام أو أمر به أو تكلم فيه من أمور الدين، فنجزم جزماً قاطعاً -ولو خالفنا من على ظهر الأرض قاطبة- أن هذا هو الاعتدال، وأن الانحراف عنه يمنة أو يسرة هو الانحراف وهو التطرف، يقول الشاعر: وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
إذاً: كل من حاد عن فعل أو أمر أو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المنحرف، سواء كان ذلك في الغلو أو في الجفاء، بالإفراط أو بالتفريط، فهؤلاء هم المتطرفون بحق، فنحن نقولها بكل يقين وبكل قوة: إن هؤلاء المجرمين هم المتطرفون حقيقة، وإن لم يعلموا في الدنيا من المتطرفون فسوف يعلمون حين يردون على ربهم تبارك وتعالى من هم المتطرفون؟! والله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:٨٠] وهؤلاء يقولون: من يطع الرسول فقد صار متطرفاً، من يطع الرسول فهو إرهابي، من يطع الرسول فهو أصولي، إلى آخر هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان.
فإذا كانت سنته صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً وصفة هي إعفاء اللحية، كان حلقها إعراضاً عن طريقته المنيفة، ورغبة عن سنته الشريفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) كما في الحديث المتفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
هل أحد من الصحابة أمرنا أن نحلق اللحية أو كان يحلقها؟ لا يعرف الصحابة ولا السلف ولا القرون الأولى حلق اللحية، حتى الخلف لا يعرفون حلق اللحية، وإنما هذه الظاهرة لم تعرف إلا مؤخراً منذ أجيال قريبة جداً؛ لما بدأ الاحتكاك بالإنكليز والفرنسيين الكافرين.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الحسن: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) وذكرنا آنفاً الحديث الذي فيه: (أن كسرى لما أرسل رجلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يعنيان كسرى-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي)، وهذا حديث حسن كما ذكرنا.
كثير من الناس يفتش عن كلمتين: عن كلمة السنة، وكلمة المكروه، كلمة السنة حتى يضيع ويفرط ما يسميه سنة، وكلمة المكروه حتى يرتكب ما هو مكروه! وهذا قلب للأمور في الحقيقة؛ لأن المكروه أحد قسمي الأشياء التي يطلب تركها؛ لأن الأحكام خمسة، وهي ثلاثة أقسام: ما يطلب فعله، وما يطلب تركه، والمخير بين فعله وتركه وهو المباح الذي لا ثواب فيه ولا عقاب.
فالمطلوب فعله هو ما أمر به على وجه الحث واللزوم، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهذا هو الواجب والفريضة.
أو ما أمر فعله لا على وجه الحث واللزوم، بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهذا هو السنة أو الإحسان أو النافلة أو المندوب.
والمطلوب تركه إما حرام وإما مكروه، والمكروه داخل في المطلوب تركه، لكن بعض الناس يقولون: إن بعض المشايخ قالوا: إن الدخان (السجاير) مكروه، إذن ندخن! وبعض الناس يقولون: إن إعفاء اللحية سنة، إذن نحلقها! نقول: إن هذا قلب للأمور، ومن علامات الخذلان؛ لأن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم هو المحبوب لله تبارك وتعالى في كل الشئون وإن لم يكن واجباً؛ لأن المحب الصادق في المحبة لا ينظر إلى الفرق بين الواجب وبين السنة، بل هو يتبع المحبوب لأجل حبه له، فما بالك إذا كان واجباً كإعفاء اللحية؟!