للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكم البول قائماً

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فمن آداب التخلي ألا يبول الإنسان قائماً، بل يبول قاعداً؛ لئلا يترشش البول عليه، وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم.

وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائماً.

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) قال الإمام الترمذي رحمه الله: وهذا أصح شيء في الباب.

وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة رضي الله عنهم أجمعين.

ودليلهم هو ما رواه حذيفة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) والسباطة هي المكان الذي تلقى فيه الفضلات من التراب والكناسة.

فهذا هو الحديث الذي يستدل به من رخص في البول قائماً؛ فلذلك نحن قلنا: يستحب أن يبول الإنسان قاعداً، ومعنى ذلك أنه لا يأثم من بال قائماً، وسبب قول ابن مسعود: هذا من الجفاء، أنه لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) لا شك أنها أخبرت عن علمها، لكن من علم حجة على من لا يعلم، فقد صح عن بعض الصحابة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً مرة أو مرتين، وهذا لا ينافي حديث عائشة، فهي أخبرت عما تعلمه.

ونقول: كان غالب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم البول قاعداً، أما ما ثبت من تبوله عليه الصلاة والسلام قائماً فيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.

فأول دليل على الرخصة في جواز البول قائماً حديث حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري وغيره، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، وبعض العلماء قال: إن ذلك كان لعلة بمأبضيه، وبعضهم قال: لأنه لم يكن هناك مكان يتمكن من الجلوس فيه.

وقد تأتي أغلب الأدلة في مسألة من المسائل بالمنع، ثم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل هذا الشيء الذي نهانا عنه، فيحمل العلماء هذا على أنه فعله ليبين الجواز، وليبين أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو نهي كراهة تنزيهية مثل الشرب قائماً، وكذلك الشرب من فم القربة أي: السقاء، يقول بعض العلماء: وقد يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه فيكون في حقه من القرب كالشرب من فم القرب ومعنى البيتين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يفعل الشيء المكروه مبيناً أنه للتنزيه؛ لأن المكروه قد يطلق على الحرام، كما قال عز وجل بعدما ذكر قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:٣٨] فهناك كراهة تحريم وكراهة تنزيه، فإذا نهى عليه الصلاة والسلام أمته عن فعل معين ثم فعله فهو يريد بذلك التوسعة عليهم، وليبين أن هذا النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه.

فقد يسأل سائل ويقول: إن الله عز وجل لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو أفضل، فإذا كان النهي عن هذا الشيء أفضل فكيف يفعل النبي عليه الصلاة والسلام المفضول الذي نهى عنه؟ ف

الجواب

أن هذا يكون في حقه عليه الصلاة والسلام قربة فاضلة وليست مفضولة؛ لأنها في مقام التشريع والتوسيع على أمته ورفع الحرج عنها، فكما نهى عن الشرب من في السقاء وفعل ذلك مرة؛ ليدل على أن الكراهة تنزيهية، وكذلك كان أغلب أحواله عليه الصلاة والسلام أنه لا يبول قائماً، وفعل ذلك مرة؛ حتى يرفع الحرج عن الأمة، ويبين أن البول حال الجلوس هو على الاستحباب وليس على الوجوب.

يقول ابن قدامة: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضيه، والمأبض: هو باطن الركبة من كل حيوان.

ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما بلت قائماً منذ أسلمت) رواه الترمذي في كتابه تعليقاً لا مسنداً.

وروى ابن ماجة والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أتى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال: يا عمر! لا تبل قائماً، فما بلت بعد قائماً) لكن إسناده ضعيف.

وروي عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً) رواه ابن ماجة والبيهقي وضعفه البيهقي وغيره.

وهذه أحاديث ضعيفة يغني عنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم، يقول النووي: وإسناده جيد وهو حديث حسن.

وأما الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

قوله: (لعلة بمأبضيه) هذه الزيادة رواها البيهقي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، لكن قال البيهقي: لا تثبت هذه الزيادة.