[المقصود بالرجاء وأسباب تحقيقه]
إن المقصود بالرجاء: هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن هذا المحبوب لا بد له من سبب حتى يكون رجاء، فالإنسان عنده شيء يحبه ويرجو أن يحققه، فإن لم يأخذ بالأسباب التي توصله إلى تحقيقه، فهذا هو الغرور وهذا هو الحمق، كما قال الله عز وجل: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤] فهذا هو الاغترار بالله عز وجل، لكن الرجاء لا يصدق عليه لفظ رجاء حتى يكون معه الأخذ بالسبب؛ لأن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: أولاً: محبته لما يرجوه.
ثانياً: السعي في تحصيله بحسب الإمكان.
ثالثاً: خوفه من فواته.
فالدنيا هي مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر في هذه الأرض، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض، فالإنسان إذا أراد أن يزرع فإنه يبحث عن الأرض الطيبة، ويلقي فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم يتعهد هذا البذر بما يحتاج إليه من سوق الماء إليه في أوقاته، وتنقية الأرض من الشوك والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم يظل منتظراً فضل الله تعالى بأن يدفع الصواعق والآفات التي تتسبب في إفساد هذا الزرع، حتى يتم ذلك الزرع ويبلغ غايته، فهذا الانتظار بعد الأخذ بالأسباب يسمى رجاء.
إذاً: بعد الأخذ بالأسباب تنتظر رحمة الله عز وجل ونفحاته، هذا هو الرجاء.
أما الشخص الذي يبث البذر في أرض صلبة سبخة، مرتفعة لا ينصب إليها الماء، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، ثم انتظر الحصاد، فإن انتظاره هذا يعد حمقاً وغروراً لا رجاء، فمثلاً: يقول الله عز وجل: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:٥٤] تجد الإنسان إذا كلمته في الدنيا وقلت له: هون عليك في طلب الدنيا فإنما يأتيك ما قدر لك، وتخبره بالنصوص التي فيها ضمان الرزق وكذا وكذا، يقول لك: كل شيء بسبب، ربنا خلق الأسباب وأمرنا بالأخذ بأسباب، ويطيل القول في ذلك، لكن إذا أمرته بمعروف أو نهيته عن منكر أو كلفته بشيء من الطاعات والواجبات فسرعان ما يتعلق بنصوص الرجاء، ويقول: ربنا غفور رحيم، ربنا رحمته وسعت كل شيء، ويتعلق بنصوص الرجاء وهو يفرط في أسباب التوبة، مع أن الرزق الذي يسعى خلفه هو مضمون ضمنه الله عز وجل له، فالرزق والأجل مضمونان، لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله، لكن النجاة في الآخرة لا تأتي إلا بالسعي، قال الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:٣٩ - ٤١] هذا في الدنيا؛ لأن هذا موافق لهواه وموافق لشهواته يسعى ويكد.
إذاً: الرجاء الذي لا يكون معه الأخذ بأسباب النجاة فهذا هو عين الحمق، وهذا هو عين الغرور.
والإنسان إذا بث البذور في أرض طيبة، لكن هذه الأرض لا ماء لها، وأخذ ينتظر مياه الأمطار في مكان لا يغلب فيه نزول الأمطار ولا يمتنع أيضاً، هذا يسمى تمنياً لشيء لا يقع في العادة.
أما الرجاء فإنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه التي تدخل تحت اختيارك، بحيث لم يبق إلا ما ليس بداخل تحت اختيارك، ولهذا قال {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢] المضطر بعدما يعجز عن الأسباب التي في يده يدعو الله عز وجل وينتظر فضله؛ لأنه أخذ بما في يده لكن بقيت أسباب ليست تحت اختياره، فهذا محض فضل الله عز وجل لصرف القواطع والمفسدات لعمله.
فالعبد الذي يجتهد في الطاعات ويجتنب المعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حينما سمع أحد الصحابة رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: أتدري ما تمام النعمة؟ قال: لا، قال: تمام النعمة أن تدخل الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، أما العاصي فإنه إذا تاب وتدارك جميع ما وقع منه من تقصير فهذا حقيق بأن يرجو قبول توبته إذا كان كارهاً للمعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن) فمن يذم نفسه ويشتهي التوبة ويشتاق إليها فهذا حقيق بأن يوفقه الله للتوبة؛ لأن هذا الحرص على التوبة هو سبب من الأسباب الشرعية التي أمرنا بها.
فالرجاء لا بد من ارتباطه بأسباب النجاة، وآية ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:٢١٨] فما أطلق عليهم وصف الرجاء إلا بعد أن ربطه بالأخذ بهذه الأسباب (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) أما من ينهمك فيما يكرهه الله سبحانه وتعالى ولا يذم نفسه ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاء المغفرة في حقه هو الحمق والغرور.
يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: من أعظم علامات الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب إلى الله بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس ويقول الحسن البصري في الكلمة المشهورة: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا حكمة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذَكَرَ) أي: أن المؤمن ليس بالمعصوم، ولا بد أن يقع منه شيء، لكن شأنه أنه إذا ذُكِّر ذكر وتاب واستغفر.