[نماذج من النساء اللاتي صبرن على التعذيب والقتل في سبيل الله]
وكذلك أول من سبق إلى هذا الدين بعد خديجة رضي الله عنها طوائف من نساء العرب اللائي استهن بما أصابهن في سبيل الله من ظلم وذل وآلام، لقد كان لقريش انبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف، حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام إلى التأنق في التمثيل.
ومن أولئك النساء اللواتي استعذبن العذاب في سبيل عقيدتهن وإيمانهن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، كانت سابعة سبعة في الإسلام، فكما كان أول قلب خفق بالإسلام هو قلب أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فقد كان أول دم أريق في سبيل الله هو دم سمية بنت خياط رضي الله عنها، فهي أول شهيد في الإسلام، وقد كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء خرجوا بـ سمية مع عمار ابنها وزوجها ياسر إلى الصحراء وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال الملتهبة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بـ عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).
حتى إن عماراً -وهو رجل- أخذ بالرخصة، حيث أجرى على لسانه كلمة الكفر عند الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد عذره الله وأمثاله بقوله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦].
أما أمه سمية وهي امرأة فإنها لم تترخص بهذه الرخصة، وإنما صبرت على العذاب في سبيل الله، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، ثم إن الخبيث النذل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته في موضع العفة منها فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: أخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: (أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة، ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: قتل الله قاتل أمك).
وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتمل الرجال، فمن المؤمنات الأوائل من كانت تلقى ثم تحمى لها مكاوي الحديد ثم توضع بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وقد عذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها كما ذكرنا، ولما ذهب بصرها من لعب الأطفال بعينها قال المشركون: ما أزال بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت لهم: والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من الله، والله قادر على أن يرد علي بصري.
قيل: فرد الله عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد).
فبدل أن يعتقدوا أن هذه الكرامة من الله لهذه المرأة الصالحة قالوا -والعياذ بالله-: هذا من سحر محمد.
وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بشرائها ثم أعتقها، فهي من الذين اشتراهم وأعتقهم أبو بكر رضي الله عنه، فقد كان أعتق سبعة ممن كانوا يعذبون في الله في بداية الإسلام، منهم: بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة، وجارية بني مؤمل، والنهدية وابنتها.
وأم عبيس من هؤلاء المؤمنات اللاتي كان المشركون يعذبونهن، فقد كانوا يجعلونها تشرب كمية كبيرة من العسل، ثم يوثقونها بالأغلال ثم يلقونها بين الرمال ولها حر يذيب اللحم ويصهر العظم، حتى تموت من العطش ويقتلها الظمأ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك بنت جابر بن حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم.
قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء لا موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني، فنزلوا منزلاً، فكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، ففي المرة الثانية تناولت بيدي، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، فصنع ذلك مراراً حتى رويت، ثم صببت سائره على جسدي وثيابي من شدة الحر، فلما استيقظوا فإذا هم بأثر الماء ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: فككت الوثاق والقيود وأخذت سقاءنا فشربت منه! فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، ولكن كان من الأمر كذا وكذا.
فقالوا: لأن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم) وهذا -أيضاً- كرامة من الله عز وجل لهذه المرأة الصالحة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يسلم يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني مؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط حتى إذا مل وتعب من كثرة الضرب قال لها: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالاً.
فتقول له: كذلك فعل الله بك.
أي: بل الله هو الذي يصرفك عني.
وهذه أم كلثوم بنت عقبة -وعقبة أبوها هو سيد من سادات قريش- هي الوحيدة التي آمنت في بيتها أول الإسلام، وفارقت خدرها ومستقر أمنها تحت جنح الليل، خرجت وحدها فريدة شريدة تطوي بها قدماها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها.
وهذه أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما أتاها أبوها أبو سفيان ولم يكن قد أسلم بعد، فدخل عليها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية! ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟! فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم.