[العابدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى]
ومن هؤلاء الناسكات اللائي يحكى عنهن اجتهاد في العبادة رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، فقد كانت مضرب المثل في وله القلب واحتراق الكبد حباً لله وإيثاراً لرضاه، وكانت تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، وتستقل كل ذلك في جنب الله.
قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: واحزناه.
فقالت: لا تكذب، بل قل: واقلة حزناه.
لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس.
ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال -وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها- قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين؟! يوشك أن تنامي ليلة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم الفزع.
وقد سبق التنبيه على أن هذا التعبير غير صحيح؛ لأن القبر ليس فيه ليل، وليس فيه نوم، ويا ليته كان نوماً! بل فيه حياة دائمة، إما نعيم وإما عذاب.
قالت عبدة: وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحداً -أي: لا تخبري أحداً-، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.
ومن قولها: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً.
ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.
وعن أزهر بن مروان قال دخل على رابعة رياح القيسي وصالح بن عبد الجليل وكلاب فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة: إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه.
قال خالد بن خداج: سمعتْ رابعة صالحاً المري يذكر الدنيا في قصصه، فأرسلت إليه: يا صالح! من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
فالإنسان ينشغل دائماً بما يطغى على قلبه، ويحبه قلبه، فمن أحب قوماً حشر معهم، فمن أحب الممثلين يخشى عليه أن يحشر معهم، ومن أحب الظالمين يخشى عليه -أيضاً- أن يحشر معهم، ومن أحب اللاهين اللاعبين الكافرين فهذا -أيضاً- يخشى عليه.
وقال بشر بن صالح العتكي: استأذن ناس على رابعة ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعة وذكروا شيئاً من الدنيا، فلما قاموا قالت لخادمتها: إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه فلا تأذني لهم، إني رأيتهم يحبون الدنيا.
وعن أبي يسار مسمع قال: أتيت رابعة فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزاً، فآثرت حديثك على طبيخ الأرز، فرجعت إلى القدر وقد طبخت.
وعن حماد قال: دخلت أنا وسلمان بن أبي مطيع على رابعة فأخذ سلمان في ذكر الدنيا، فقالت: إنما يذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس بشيء فلا.
قال أبو سعيد بن الأعرابي: أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها من قولها: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.
يقول الحافظ الذهبي معلقاً على النسبة السابقة: قلت: فهذا غلو وجهل، ولعل من نسبها إلى ذلك حلولي يحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: (كنت سمعه الذي يسمع به) يعني الحلوليين.
وقال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، والله أعلم.
وقال أيضاً: أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر، والله أعلم بحقيقة الأمر.