[تاريخ مشروعية صلاة الجماعة]
إن الصلوات المكتوبة في جماعة شرعت في مكة بعد فرضية الصلاة، ولكنها لم تكن مؤكدة، فالاجتماع للصلاة المكتوبة كان في أول الأمر غير واجب، ثم بعد أن فرض الله جل ذكره الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج أرسل جبريل عليه السلام صبيحة تلك الليلة، ففرض الصلاة ثم في صبيحة تلك الليلة أرسل الله عز وجل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقاتها وكيفية أدائها؛ حيث أَمَّ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، مرة صلى فيها الظهر حين زالت الشمس، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: (لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به فيها لم يرعه إلا جبريل يتدلى حين زاغت الشمس) ولذلك سميت صلاة الظهر الصلاة الأولى (فأمر فصيح في الناس بـ: (الصلاة جامعة))، ولم يكن شرع الأذان بعد.
صيح في الناس: (الصلاة جامعة) أي: هيا اجتمعوا.
فاجتمعوا، فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وطول الركعتين الأوليين ثم قصر الباقيتين، ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.
أي أن جبريل لما قال: (السلام عليكم)، كان يقصد بذلك السلام على الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (السلام عليكم) كان يسلم على الناس.
ثم في العصر ففعلوا كما فعلوا في الظهر.
ثم نزل أول الليل فصيح: (الصلاة جامعة) فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، فقرأ في الأوليين وطول وجهر -أي: في العشاء- وقصر الباقيتين -يعني: صلاهما بالفاتحة فقط- ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.
قال السهيلي في (الروض الأنف): أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة -يعني قصة إمامة جبريل- كانت في الغد من ليلة الإسراء، وذلك بعد ما نبئ بخمسة أعوام، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة مع بعض أصحابه في مكة في بعض الأحيان، والغالب أنه لم يكن يصلي بهم جماعة، وصلى بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دار الأرقم، ومع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وذلك بعد إمامة جبريل له عليه الصلاة والسلام.
ومع وقوع صلاة الجماعة بهذه الصورة لم تكن مشروعيتها متأكدة، إنما أوجبت بالمدينة وصارت فيها شعيرة بارزة من شعائر الإسلام، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها -أي: يترقبون مواقيت الصلاة ويصلون، ولم يكن هناك نداء للصلاة- فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى.
وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود.
فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة).
وروى أبو داود في سننه بسنده عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كيف يجمع الناس لها؟)، أي: ما هي الطريقة التي يجمع بها الناس كي يحضروا صلاة الجماعة؟ (فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً.
فلم يعجبه ذلك) لأن هذا سيبنى على حاسة البصر فقط، الذي يرى الراية سيعرف وقت الصلاة، فلابد من أن يكون الإنسان متوجهاً إلى المسجد حتى يرى الراية، أما الاعتماد على السمع فالإنسان حتى لو لم يكن ناظراً للمسجد فإنه سيسمع، والسمع مجاله أرحب وأوسع من البصر، فالمهم أنه لم يعجبه ذلك عليه الصلاة والسلام (فذكر له القمع) أي: بوق اليهود.
فاليهود- ينادون لصلاتهم في بوق، (-وقال زياد: شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: من أمر اليهود) حتى لا يتشبه باليهود (قال: فذكر له الناقوس - أي: الجرس - قال: هو من أمر النصارى.
فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: يا رسول الله! إني لبين نائم ويقظان -كنت في حالة بين النائم واليقظان- إذ أتاني آت فأراني الأذان.
قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله) يعني: سيلقنك ألفاظ الأذان التي أريها في منامه، فافعل مثلما يقول لك.
قال أبو بشر: (فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً له)، وهذا الحديث قال الحافظ عن إسناده: صحيح الإسناد.
وبهذا يتبين أن الصلاة لم يكن ينادى لها منذ فرضت في مكة حتى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان المسلمون في تلك الفترة يتحينون أوقات الصلاة فيجتمعون ويصلون بدون أن يجمعهم جامع.
ثم إن النداء للصلاة بألفاظ الأذان المشروعة إنما استقر الأمر عليه بعد الرؤيا التي رآها عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، وشرع الأذان للصلوات الخمس بصوت إنسان داعية للصلاة لا راية ولا نار ولا ناقوس ولا بوق، وإنما هو منطق بشر يجلجل في الآفاق فيميز المسلمين بمظهر مستقل؛ لأن النداء للصلوات في الأديان الأخرى هو كما عند النصارى بالجرس الآلة جامدة، وعند اليهود بالبوق، وعند غيرهم بالراية، لكن الإسلام جعل نداء الصلاة صوتاً يصدر من بشر يجهر بتكبير الله سبحانه وتعالى وتوحيده حتى يتميز المسلمون في هديهم عن سائر الأديان في كل شأنهم.
فعلى المسلم حين يسمع النداء للصلاة أن يلبيه مهما كان الوقت من ليل أو نهار، وعليه أن يجيب داعي الله مهما عرضت له الأعذار.