للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال]

العلم المتعلق بالرجال يسمونه: علم الجرح والتعديل، ومعلوم أنه لا يوجد منهج بشري على الإطلاق يملك عشر معشار هذا المنهج التوثيقي الدقيق الذي قدمه لنا أئمة الحديث رضي الله عنهم أجمعين.

يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان وهو يصف معالم هذا المنهج: لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح.

محاور هذا المنهج متعددة، وتفاصيلها تراجع في مظانها من كتب الحديث والمصطلح، لكن هنا إشارة عابرة إلى ثلاث مسائل حتى يتبين لنا بها مدى عدلهم وإنصافهم رحمهم الله.

المسألة الأولى: تقويم المبتدعة: فالعلماء ينظرون في الراوي إلى جهتين: جهة الضبط والإتقان، وجهة الصدق، فإذا توافرت فيه هاتان الصفتان اعتمدت رواية الراوي حتى لو كان ممن عرف تلبسه ببدعة غير مكفرة تخالف منهج السلف الصالح، وكانوا يقولون: لنا صدقه وعليه بدعته؛ لأنه عرف بالصدق، لاسيما إن كان خارجياً يعتقد أنه يكفر لو كذب، وإن كان قد وجد أيضاً كذب في الخوارج، لكن هذا في حق من قبلوه من أهل البدع إذا ثبت صدقه، فليس هذا تهوين من أمر البدع وأهلها، وإنما تعظيم للعدل، واعتراف بالحق لأهله.

يقول الإمام الطبري رحمه الله: لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة، ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنهم ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه مجرد الاتهام.

فالقدح هكذا جزافاً لا يصح، لكن ينبغي التحري والتدقيق في هذا.

ويقول الحافظ ابن حجر: فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه؛ فلا مانع من قبوله.

فلذلك لا نعزب إذا رأينا بعض علماء الحديث وأئمتهم حتى البخاري نفسه قد يروي لبعض أهل البدع لتوفر هاتين الصفتين: الصدق والضبط، فهذا يدل على عظم العدل الذي اتصف به هؤلاء السلف في تقويمهم للرجال مع شدتهم على أهل البدع، وحساسيتهم في هذه المسألة.

ولذلك نجد شيخ الإسلام نفسه أحياناً كان يعترف بفضائل المبتدعة إذا ثبتت عنهم، ولا يتردد في ذلك، يقول رحمه الله: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار؛ فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً.

فانظر إلى دقة فهم شيخ الإسلام، وشدة إنصافه في هذا الباب.

نجد أيضاً في صفوف من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية أخذهم على بعض الجماعات أنهم ينتشرون في كل أقطار العالم كجماعة التبليغ، حتى في داخل روسيا وجنوب أفريقيا وأمريكا وأوروبا وكل العالم؛ ينتشرون للدعوة إلى الإسلام على بعض البدع التي يتلبسون بها، ولهذا يقولون: كيف يعلمون الناس إسلاماً بهذه البدع؟ فالأولى أن من يرى فهماً أصح للإسلام أن ينشط نشاطهم ويتحرك حركتهم، لكن مع الكسل نتفرغ فقط للرثاء لحال هؤلاء الذين يسلمون على أيديهم، وهذا كلام شيخ الإسلام يقول: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار، ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير، وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين؛ فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخص منها وهي بدعة أهل السنة.

ثم يقول شيخ الإسلام في نفس الباب رحمه الله: والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأزين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.

ومن جميل ما سطره يراع الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه سير أعلام النبلاء، وهو من أنفس كتب الرجال وأعظمها، يقول رحمه الله: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن.

هذه هي المسألة الأولى فيما يتعلق بتقويم أهل الحديث في تقويم المبتدع.

المسألة الثانية في منهج أهل الحديث: أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور: فالحكم يكون على غالب مرويات الرجل، وضبط الراوي شرط أساسي من الشروط، لكن هذا لا يعني سلامته من الخطأ تماماً، بل ينظر إلى مجموع ما يرويه الرجل، فإذا كان الغالب على ما يرويه السلامة من الخطأ؛ اعتبر الراوي ضابطاً وقبلت روايته، لكن إذا كثرت الأخطاء، ومخالفة الراوي لغيره من الثقات؛ رد حديثه.

يقول سفيان الثوري رحمه الله: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك.

ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا خلاف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة.

فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما رأيت أحداً أقل خطأ من يحيى بن سعيد، ولقد أخطأ في أحاديث، ثم قال: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟! وقال أبو عيسى الترمذي: وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان، والتثبت عند السماع؛ مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط أحد من الأئمة مع حفظهم.

وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي: ولو كان كل من وهم في حديث اتهم؛ لكان هذا لا يسلم منه أحد.

المسألة الثالثة والأخيرة من ضوابط أهل علم الحديث في الحكم على الرجال، وهي مهمة جداً، وقل ما يتفطن لها كثير من الناس، وهي: أن كلام الأقران يطوى ولا يروى: فقد يحصل أن بعض الأقران المتقاربين في السن والعلم ممن يكونون في عصر واحد يحصل بينهم شيء من الاختلاف لسبب من الأسباب، فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأن، حتى أن الواحد منهم قد يصف غيره أحياناً بأوصاف يعلم يقيناً أنه بريء منها، ولكن حب الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء، من أجل ذلك كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون الجرح بين الأقران، إذا تبين لهم أن سبب صدوره نزاعات شخصية بين الطرفين، والعبرة بالأدلة والبراهين، صحيح أن الجرح مقدم على التعديل، لكن إذا كان الجرح ناشئاً عن خصومة مذهبية أو عصبية، أو نوع من التحاسد، وثبت ذلك؛ فلا يقبل هذا الجرح، ولا ينبغي أن يحكى، لكنه يطوى ويخفى، فهذه الصورة أيضاً لا تقف عند المحدثين، بل قد تتعداه في مثل هذا العصر إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ فبعض الناس قد يعجب مما يراه في كتب بعض علماء الدعوة السلفية من الخلاف والمساجلات والمحاورات الشديدة؛ لأنهم ينحرفون عن هذا المنهج، ولكن كلام الأقران يطوى ولا يحكى، فالمنهج القسط: أن ينظر إلى الخلفيات التي تبنى عليها الأحكام، ومن ثم توزن بما يقتضيه الحال من التحري والإنصاف حتى لا يتهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثراً، وليس كل اتهام مقبولاً، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه.

قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: هذا باب غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.

يقول الإمام الذهبي: كلام بعض الأقران في بعض لا يعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لذكرت من ذلك الشيء الكثير.

وذلك مثل ما حصل بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، وبين السيوطي والسخاوي، وهكذا في كل عصر تحصل مثل هذه الأشياء، فإذا تناطحت ا