للرؤيا الحقة علامات وسمات، وتكون دلائل الصدق عليها بينة، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم وأن نقطع بأنها رؤيا حق إلا إذا تحققت على النحو الذي رآه صاحبها في منامه.
الحقيقة بين وقت وآخر نحن نضطر أن نتوقف عند بعض الظواهر المنتشرة الآن في وسط الشباب، كان المفروض أن نشتغل دائماً في البناء، وننهل من العلم النافع والعمل الصالح، لكننا نضطر بين وقت وآخر أن نتوقف وقفات يسيرة مع الأفكار التي تشيع، نظراً إلى الاتساع الأفقي الكبير في قاعدة الدعوة، والذي شكل نوعاً من التضخم على حساب المنهجية، وعلى حساب الاهتمام بالتربية، وتصفية المنهج السلفي؛ حتى عاد الانتساب للسلفية أحياناً مجرد اسم تحته مخلفات مصادمة لهذا المنهج، وليس هذا أمراً حديثاً لكنه وجد من قبل في حادثة الحرم المكي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، أحياناً يوجد عند بعض السلفيين نوع من انحرافات الصوفية، وقد كان من ذلك شيء في هذا الموضوع الذي نطرقه الآن، وهو موضوع الاستغراق في موضوع الرؤى دون ضابط ودون خطام ودون زمام، قد تقابل صديقاً أو قريباً فتراه في غاية الحزن والاكتئاب، فتفتش وتحاول أن تسبر غور نفسه حتى تعرف سر حزنه وكآبته، فتتعجب أشد العجب عندما تعلم أن سبب هذا الاكتئاب الذي يعلوه هي رؤيا مزعجة، أو رؤيا منذرة بخطر سوف يداهمه! وأحياناً تجده فرحاً منشرح الصدر باسم الثغر؛ وما ذلك إلا لأنه رأى رؤيا مفرحة أو مبشرة بحدث سار قادم! والحقيقة أن الرؤى كانت ولا تزال لها تأثير ليس على الأفراد العاديين فحسب، بل على النابغين والأذكياء، كم أقضت الرؤى مضاجع الجبابرة والملوك! وكم شغلت شعباً بأكمله يوماً من الأيام! وما رؤيا ملك مصر في عهد يوسف عليه السلام ببعيدة عن ذاكرتنا، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، وكانت رؤيا حق، وهذه الرؤيا الحق نفعت الناس نفعاً عظيماً عندما وجد الشخص الذي أحسن تفسيرها وتأويلها.
يقول الدكتور عمر الأشقر في كتابه (جولة في رياض العلماء): كثير من الناس اليوم يبادرون بالتكذيب بالرؤى والأحلام، وهؤلاء غالباً الذين يشتغلون بالأمراض النفسية وبالدراسات النفسية المادية التي تستقي من المصادر الغربية، ويزعمون أن أي شيء يراه الإنسان في منامه ما هو إلا انعكاسات لما يجول في فكره في حال اليقظة، وما يختزن في فكره الباطن أو في عقله الباطن كما يزعمون، فإذا استسلم للرقاد، وطاف في أودية الكرى، فإن عقله الباطن يعمل، فيحقق المرء في نومه ما لم يستطع تحقيقه في عالم اليقظة.
نحن لا ننكر أن قسماً كبيراً من الرؤى ليس إلا انعكاسات لأحاديث الناس وخواطرها التي تمر بها في اليقظة، ويمكن أن نتطلع إلى ما يدور في عقل الإنسان الباطن من خلال التعرف على المنامات التي يراها، لكن هذا ليس في كل حال، وإنما في بعض المنامات التي يصدق عليها وصف حديث النفس أو الأحلام الشيطانية، لكنها لا يمكن أن تكون في حق الرؤيا التي هي حق من الله سبحانه وتعالى، فنرفض أن تكون جميع الرؤى انعكاسات نفسية، وهذا تحكم يعلم كذبه كل من تفكر في رؤاه التي مرت به، أو التي سمع الناس يروونها ويحدثون بها عن أنفسهم، كيف نفسر رؤيا امرأة رأت وليدها يسقط من سطح منزل، وفي الصباح يخرج فلا يعود؛ لأن سيارة دهسته وأودت بحياته؟! كيف نفسر رؤيا رجل يرى نفسه وقد سافر إلى بلد وسكن منزلاً عرف في هذا المنام معالمه، فلا تمضي شهور حتى يكون في ذلك المنزل الذي رآه في منامه؟! يوسف عليه السلام أخبر أباه عليه السلام بما رآه {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:٤] فكم من السنوات الطويلة مضت ما بين رؤيا يوسف عليه السلام وبين أن تحققت، وقال قولته عليه السلام {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}[يوسف:١٠٠].
كيف نفسر رؤيا رجل رأى أنه سافر وتعطلت سيارته على صورة ما، وينسى الرؤيا ولا يذكرها إلا حينما يرى المشهد الذي رآه في المنام حقيقةً ماثلة؟! ليوفل فايس كان صحفياً نمساوياً يهودياً أسلم وحسن إسلامه، وله سيرة عطرة، وقد توفي منذ سنوات قريبة رحمه الله، تحدث في كتابه (الطريق إلى مكة) عن رؤيا رآها في منامه قبل إسلامه، وقام من منامه وسجلها، وقد تحققت فيما بعد على الرغم من طولها، وكثرة أحداثها! إذاً: ليس كل الرؤى انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها وهواجسها، بل الأمر أعمق من ذلك، والإنسان لا يقدر بعقله وفكره أن يصل إلى أعماق نفسه، ففي النفس الإنسانية خبايا يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، على الرغم من أنها أقرب الأمور إليه.
أكثر الناس من المؤلفين وغيرهم إذا تدبروا قوله تبارك وتعالى:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:٢١] يلتفتون إلى الناحية التشريحية في جسم الإنسان، ومن خلالها يطلعون على وظائف الأعضاء أو غير ذلك من آيات خلق الله سبحانه وتعالى، والعبر الموجودة في خلق الإنسان، ووظائف جسمه، وما يطرأ على جسمه، لكنهم يُغفلون آيات الله سبحانه وتعالى في تركيب هذه النفس التي هي قسيم ذلك البدن، والتي بدونه يكون ميتاً لا حراك به.
عالم النفس عالم مستقل تماماً، وهو من الأمور المجهولة الغامضة التي حيرت الألباب، والحافلة أيضاً بآيات الله سبحانه وتعالى الناطقة بربوبيته وأُلوهيته عز وجل، والرؤى لها علاقة بالنفوس الإنسانية، والرؤى فيها جانب غيبي لا يخضع للعلم المادي المبني على النظر والتأمل والبحث المادي، وقد أغنانا النبي صلى الله عليه وسلم عن إتعاب النفس في هذا الموضوع، وقال لنا كلمة الفصل التي لا نحتاج معها إلى غيرها، وذلك أنها تمثل الحقيقة، وتفسر الأمر تفسيراً يدرك الإنسان صدقه عندما ينظر إلى رؤاه ورؤى الناس، وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:(الرؤيا ثلاثة: منها: تهاويل من الشيطان -ليحزن الشيطان ابن آدم-ومنها: ما يهم بها الرجل في يقظته فيراه في منامه -حديث النفس-، ومنها: جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) وفي الحديث الآخر: (الرؤيا ثلاثة: فبشرى من الله، وحديث نفس، وتخويف من الشيطان).