العبرة في الشرع بصلاح القلوب والأعمال معاً
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) هذا الحديث مما يستدل به من لا يهتم بالأعمال الظاهرة، وهو في الحقيقة حجة على هؤلاء القوم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتصر على ذكر القلوب فقط، بل قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فالقلوب لا سبيل لنا للاطلاع عليها، لكن الأعمال نستطيع أن نحكم عليها بالظاهر، فلذلك عطف الأعمال على القلوب.
فالعمل شيء ظاهر، والله سبحانه ينظر إلى الباطن وهو القلوب، وإلى الظاهر وهو الأعمال.
فالمقصود بقوله: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) أي: وينظر إلى الأعمال التي تنبثق عن تلك القلوب، والتي لابد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله، ويكون المراد بها وجه الله عز وجل.
فلماذا نحاول أن نضرب الأدلة بعضها ببعض؟! ولماذا لا نفهم النصوص في تناسق وتعاضد؟! فهذا الحديث يؤخذ منه أن المعتبر عند الله سبحانه وتعالى هو التقوى، كما يأتي في باقي الحديث: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات)، عليه الصلاة والسلام.
فمحل التقوى هو القلب، والمعتبر عند الله هو تقوى القلوب وليس الظاهر، كما قال عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم} [الحج:٣٧]، أي: هذا لا يصل إلى الله، ((وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم))، وقال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
ومن هذا نفهم أن الإسلام لا يضع اعتباراً على الإطلاق للمظاهر والأمور الشكلية الجوفاء، وهذه هي القشور في الحقيقة، والتي ينبغي أن نحاربها، قشور في المآتم وقشور في الأفراح وقشور في الحكم على الناس بالمظاهر وبالملابس وبالزينة التي يلبسونها، والإسلام يقضي على هذه القشور ويحاربها، وهذه هي القشور التي ينبغي أن نسميها قشوراً، وندعو إلى هجرها وإحلال القيم والأخلاق الإسلامية مكانها.
فلا ينبغي أن تحكم على الناس بالمظهر أو بالزينة أو بالنعيم أو بالترف والجمال، أو غير ذلك من الأمور، كما هو لفظ الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم) فهذه ليس لها اعتبار عند الله، بل: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)).
فليس في الإسلام اعتبار للمظاهر الجوفاء والصور الجميلة، وليس لها ثقل عند الله عز وجل، فهذا يوسف عليه السلام الذي أوتي شطر الحسن لما رشح نفسه لإنقاذ الناس من المجاعة قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]، ولم يقل: إني قد أوتيت شطر الحسن، بل اعتدّ بمدى علمه وأمانته وتقواه لله تبارك وتعالى.
في حين قال سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:٤]، فقد يملكون القوة والعضلات والبهاء والمنظر، ولكنهم منافقون، ولذلك قال عز وجل: {كََأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:٤]، وقد جاء تفسيرها في صحيح مسلم: كانوا رجالاً أجمل شيء.
يعني: شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون؛ لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
وقد رسخ الشرع هذا المعنى في نصوص كثيرة كما سنبين إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل، ولكن سنذكر الآن هذه القصة التي رواها أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان إذا أتى من البادية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بشيء من طعام أو غيره من الأشياء التي يهديها البدو حسب بيئتهم، كذلك إذا أراد أن ينتقل من الحضر إلى البادية كان يزوده النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من متاع الحضر، وكان يقول: (إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميم الخلقة.
وقد جاء الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاه يوماً وهو في السوق يبيع المتاع الذي يحضره من البادية، فاحتضنه الرسول عليه الصلاة والسلام وضمه إلى صدره وهو لا يبصره، فقال: أرسِلْني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو حتى ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حينما عرفه -أي: حرص على قرب النبي عليه الصلاة والسلام منه ما استطاع- وجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضنه من خلفه يقول: من يشتري العبد؟ -يعني: كأن هذا عبد والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبيعه، يصنع ذلك معه مزاحاً- فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً، يشير إلى دمامة خلقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: لكنك عند الله أنت غالٍ)، أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الحافظ ابن حجر في الإصابة.
نفهم من الحديث عدم الالتفات إلى الصور والمظاهر والأشكال؛ فالعبرة بالقلوب والأعمال، فهذا هو المقصود من قوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم)؛ لأن الغنى والمظهر والبهاء كل هذا لا وزن له عند الله سبحانه وتعالى.
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٢ - ٤].
لم يقل: ذوو الحسب، ولم يقل: ذوو الأموال والمظاهر والجمال! إنما الصفات التي تعتبر عند الله هي الإيمان والتقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
هذا الأسلوب في فهم النصوص التي ذكرناها آنفاً هو الأسلوب الوحيد الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية، ويرتكبون المخالفات الشرعية، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:١١ - ١٢].
ويضربون بالأحكام الظاهرة التي هي شعار الإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها عرض الحائط، ويريدون ألا ينكر عليهم مُنِكر، وألا يَخدش انتماءهم إلى الإسلام، حتى وإن هجروا هذه الشعائر! إن لم نفهم هذه النصوص بهذا الفهم الذي ذكرناه، فسوف يُنسب إلى الشريعة التناقض الذي تنزه عنه؛ لأن الشرع بنى أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا، فإذا أهدرنا كل هذه الشرائع الظاهرة بدعوى أنها من القشور، وزعمنا أن المهم هو النية وصلاح القلب، فهذا بلا شك سيقضي تماماً على أحكام الشريعة الإسلامية.
ومثل هذا الخبث لم يفعله حتى المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وآله، فالمنافقون لم يصلوا إلى أن يبتكروا مثل هذه القسمة الخبيثة كما يفعل الملاحدة والعلمانيون اليوم في هذا الزمان؛ لأن المنافقين ما احتجوا لهدم الأصول بهذه الطريقة، وإنما كانوا يُصلّون مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يحجون معه، وكانوا يجاهدون معه، وكانوا يتناكحون مع المسلمين، وكان المسلمون يصلون عليهم ويدفنونهم معهم أخذاً بما يظهرونه.
ثم نقول: أليس الذي نطق بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) وحديث: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم؟) هو الذي نطق بالنصوص التي تدل على اعتبار الظاهر، كقوله مثلاً: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)، والله عز وجل يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤]، لم يقل: وما ينطق بالهوى، وإنما نزّه كل ما يصدر في الدين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، والله عز وجل يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢].