للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تأثير الفيديو والتلفاز على المحيطين بهما]

نستحضر معاً صورة رسمها أو تخيلها بعض الناس، وربما عبروا عنها في قصة تنسب إلى شخصية جحا أو غيره، شخصية ذلك الرجل الذي أراد أن يقطع غصن شجرة، فتسلق الشجرة وجلس على الغصن من طرفه الخارجي وليس من الجهة المقابلة للساق، ثم أخذ المنشار وظل يقطع الغصن، فرآه رجل على هذه الحالة، وكان هناك رجل يرى الصورة من بعيد، فقال له: أنت على وضع خطأ، يوشك أن تسقط الآن.

فما بالى به ولا التفت إليه، ونظر أمامه فقط، فأخذ يقطع الغصن حتى هوى به وسقط على أم رأسه، فأخذ يجري وراء ذلك الرجل ويقول له: كأنك تعلم الغيب، كيف عرفت أنني سأسقط؟ أخبرني إذاً متى سأموت؟ والشاهد أن الإنسان حينما يكون داخل تأثير مجال معين فإنه لا يستطيع أن يقيس الأمور قياساً دقيقاً، لكنه إذا حرر نفسه من هذا المجال ومن تأثيراته، ونظر من بعيد استطاع أن يذكر الحكم الصائب على الأشياء، ولذلك فإن ذلك الرجل -لأنه بعيد- استطاع أن يرى هذه الصورة بخلاف ذلك الذي كان يمارسها بالفعل.

فنحن نحتاج -أولاً- إذا أردنا أن نناقش هذا الموضوع أن نخرج من تأثيره السحري، أو تأثيره المخدر، كما يسميه بعض المعاصرين بالمخدر الكهربائي، نحن نحارب الإدمان بالمخدرات والكحول وغيرها كثيراً، إلا أننا نؤمن تماماً أن التلفزيون أو الفيديو أشد وأخطر وأفسد للقلوب.

إن هذا الشخص الذي أشرب حب هذه الأشياء، ويجلس أمامها عاكفاً في خشوع وصمت وسكون العابد الخاشع المتبتل ما حظ هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة الله؟! ما حظه من قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:٧]، هل هذا الإنسان فعلاً بغض إليه الكفر والفسوق والعصيان؟! إن الذي يجلس ليرى -على الأقل- النساء المتبرجات هو الذي استجلب الجهاز بيده، واشتراه بماله، وربما أخذه من قوت أولاده، وهو الذي فتحه لأولاده وأحضره لهم، ثم بعد ذلك يذوق الثمار المريرة من هذه الفتنة التي أشعل نارها بيده هل له حظ من قوله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨]؟ هل له حظ من قوله عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:١٥ - ١٦]؟ إذا حشر الخبيث والطيب يوم القيامة، إذا حشر الحق والباطل فمع أي الفريقين يكون صاحب التلفزيون والفيديو؟ المسألة لا تحتاج إلى جواب، وماذا بعد الحق إلا الضلال.

هذه الفتنة الآن اقتحمت بيوت المسلمين، وجاست خلال ديارهم تفسد عليهم عقيدتهم وأخلاقهم، وتصدهم عن دين ربهم تبارك وتعالى، وتقتل فيهم روح الغيرة على حرمات الله، الغيرة التي هي حياة القلب ليرى المنكر منكراً والمعروف معروفاً، إذا ماتت الغيرة على حرمات الله عز وجل مات الإيمان، وصار بلا روح، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)، فإن الله عز وجل يغار حينما يرى حرماته تنتهك وحدوده تتعدى.

إن أقل ما يقع ممن يعكف ويجلس خاشعاً أمام هذا الصنم الكبير استحسان المعاصي، وإذا ما تعود قلبه على رؤية المنكرات يموت في قلبه الإحساس بأنها منكرات، لن يخلو من سماع الموسيقى، ولن يخلو من رؤية المرأة المتبرجة، ولن يخلو من إقرار كثير من المنكرات، بل لن تصير منكرات حينما يرى النساء الأجنبيات مع الرجال الأجانب عنهن في أوضاع -والعياذ بالله- تكاد تتفطر لها الأكباد والقلوب، هل القلب في هذه الحالة ينكر هذا المنكر؟ وإن أنكره في المرة الأولى ماذا يكون في الثانية والثالثة؟ وهكذا.

إذاً يموت الإحساس من القلب ويصير قلباً منكساً، يستحسن المعاصي ويتلذذ بها، ويود أن لا يزعجه أحد أو أن يبعده ويقصيه عن هذا الاسترسال والخشوع أمام هذا الصنم الجديد.

مر عبد الله بن عمرو رضي الله تبارك وتعالى عنهما على قوم جالسين يلعبون بالشطرنج، فأنكر عليهم قائلاً: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ فأيهما أولى بأن نتمثل له بهذه الآية، هذه القطع من الشطرنج الخشبية، أم هذا الصنم الجديد الذي حول ونقل السينما والبارات والمواخير والخمارات إلى داخل بيوت المسلمين؟! ثم حول الأمة تحويلاً شديداً عن الهدف الذي خلقت له.

إن هذه الأمة المحمدية أمة ذات رسالة في هذه الحياة، كما قال ربعي بن عامر لـ رستم لما قال له: ما جاء بكم؟ قال: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي أهداف هذه الأمة، لا أن تجلس وتقتل الوقت أو تنتحر -بتعبير أدق- أمام هذا الجهاز الخبيث، صارت الفتنة في كل مكان الآن، ولا يكاد يخلو منها بيت، وفي نفس الوقت نحتاج ونحن ندرس هذه القضية إلى الاقتباس من كثير من البحوث، وإن كنت -والحمد لله- لا أرى هذين الجهازين، لكن من خلال بحوث علمية كثيرة جمعت ودراسات اشتملت على الأسئلة التي ننقلها إليكم بالتنبيه إلى هذا الخبر.

أيضاً نحتاج كثيراً جداً إلى الاقتباس من الباحثين الغربيين لسببين: الأول: أن الحكمة ضالة المؤمن.

والسبب الثاني: أن القوم كانوا أسرف منا في الابتلاء بهذه الأشياء، ومع ذلك شهد شاهد من أهلها، وفهم رماه الأقربون حينما يضجون الآن ويمنعون أبناءهم من مشاهدة هذا الجهاز لأخطاره على الأخلاق والقيم؛ لأنه فتنة يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير.

الكل يوقف سمعه وبصره وقلبه على البث التلفزيوني، انظر إلى منظرهم وهم يتابعون مباراة كرة قدم، أو تمثيلية مهمة، ماذا يكون حالهم؟ تجد الخشوع، وهل يخشعون في الصلاة هكذا؟ أو إذا قرئ القرآن ينصتون له هكذا؟! لا.

إنك تجد القلوب والأسماع خاشعة، ولو أن طفلاً صغيراً ألقى قشة في الأرض لثاروا وضجوا: اسكت.

ويخرصون كل من يهم بأن يقطع عليهم هذه العبادة وهذا التبتل في محراب الشيطان، يتشبث كل فرد في متابعته لا يكاد ينفك عنها، الجميع عاكفون أمامه سامرون على حال من الذهول وفقدان الوعي كأنهم مسحورون قد سمروا على مقاعدهم يتابعون الأحداث بكل إصغاء وانتباه، تنقطع أنفاسهم، وتدق قلوبهم إذا تأزم الموقف، ثم تنطلق صيحاتهم وصرخاتهم ويتحركون في عنف عند أي موقف ناسين ما حولهم ومن حولهم، فترى الرجل الكبير يخرج عن وقاره، ويقف على الكرسي إذا سجل هدف -مثلاً- في مبارة كرة، ويصرخون كأن الحرب قد قامت، وكأن المسلمين استردوا فلسطين وعاد بيت المقدس بذاك الهدف، وأقيمت الخلافة، وعادت أفغانستان، ونفذت كل مآرب الأمة وأهدافها.

هل من العقل والحكمة أن نتعامل مع هذا الجهاز الخبيث بهذه العفوية والسذاجة والسلبية؟ هل نحسن به الظن ونعتقد أن فوائده كثيرة؟ بل صار من المسلمين من يعتبر وجود هذا الخبيث ضرورة حياتية لا يستطيع أن يستغني عنها، قد يستغني عن الطعام والشراب ولا يستغني أبداً عن هذا الجهاز الخبيث، غاب عن هؤلاء جميعاً مساوئ ومخاطر هذا الجهاز، أو نظروا إليها بمنظار مصغر فحقروها.

ومن هنا نقف هذه الوقفة في دعوة صادقة مع النفس نراجعها ونقلب أبصارنا وبصائرنا في محاسن هذا الجهاز ومساوئه، فإذا فعلنا ذلك سنقرر أن للفيديو والتلفزيون منافع للناس، ولكن هما كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.

لكن المنافع على قلتها ضخمت، وأريد لها الظهور فروج لها، وأخفيت المساوئ على خطورتها وكثرتها فلا تكاد تذكر، ومن أجل ذلك لن نتكلم على مزية واحدة من مزايا هذا الجهاز؛ لأن الناس يحفظونها ويعدونها كأسلحة مضادة إذا هوجموا، يقول أحدهم: أنا اشتريت التلفزيون لأشاهد البرامج الدينية، أو لمتابعة الشيخ الشعراوي، أنا أتيت به لكي أطالع نشرات الأخبار.

ويستنزله الشيطان دركة دركة حتى يقع في الهاوية.

فالتلفزيون ليس في حاجة إلى تلميع حتى نتكلم على مزاياه، وإنما نحاول كشف ما فيه من مخاطر يغفل عنها أكثر المسلمين انطلاقاً من قوله تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥].