للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضوابط في مفهوم الغلو وغيره من المصطلحات الحديثة]

سبق أن تكلمنا أن الشرع دائماً يرغب في التيسير وفي رفع الحرج، وأن الإنسان لا يشدد على نفسه، وأن يختار دائماً الأيسر ما لم يكن إثماً، كما كان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتكلمنا في مقدمة الكلام عن معنى الغلو، وبينا أن الغلو معناه مجاوزة الحدود التي حدها الله تبارك وتعالى.

إذاً: أصل الإنسان الغالي أنه يقصد من غلوه التقرب إلى الله سبحانه، فهو ينظر إلى معنى قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] لكنه لا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فيتجاوز هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يتجاوز حدود الله.

ولذلك يقول العلماء في تعريف البدعة: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بها المبالغة في التعبد لله عز وجل.

فكل مبتدع يقصد المبالغة في العبادة ولا يقنع بالحدود التي حدت له.

والغلو هو في حقيقته حركة في اتجاه القاعدة الشرعية والأوامر الإلهية، لكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدها الشارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدين وليس خروجاً عنه في الأصل، بل هو نابع من الرغبة في الالتزام به.

وأمر آخر هو أن الغلو ليس دائماً في الفعل، بل يدخل فيه الترك أيضاً، فمثلاً: ترك الحلال وتحريمه نوع من أنواع الغلو، هذا إذا كان تركه للحلال تديناً، أما إذا ترك المسلم الحلال من الطعام لأن الطبيب نهاه عن أكله لأنه يضره فهذا أمر لا حرج فيه، لكن أن يترك المسلم شيئاً من الطعام متعبداً بذلك ومتنسكاً ومتقرباً إلى الله بتركه فهذا مبتدع ضال، وهذا غلو في الدين وتجاوز لحدود الله، وهذا من الظلم.

ثم إن نسبة الغلو إلى الدين -كما يقول بعض الجهلة أو الخصوم للدعوة الإسلامية: الغلو الديني، أو التطرف الديني- هو تجوز في العبارة؛ إذ الغلو إنما هو في أسلوب التدين لا في الدين نفسه، والأسلوب هذا إنما هو راجع إلى البشر؛ لأنهم غير معصومين، وليس راجعاً إلى الدين نفسه الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تقول: الغلو الديني أو التطرف الديني كما ذكرنا، ولذلك جاء التعبير القرآني: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:٧٧] قوله: (لا تَغْلُوا) يعني: لا تغلوا غلواً دينياً.

وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والغلو في الدين) ولم يقل: إياكم والغلو الديني.

فهذا راجع إلى السلوك وليس إلى الدين نفسه، فالدين براء من الغلو، وهذا المعنى إذا اتضح لكثير من الجهلة ممن يحملون هذه الحملات على المسلمين وعلى عباد الله لكان لزاماً عليهم أن يستغفروا حتى الممات مما صنعوا من التنفير من الدين بسبب استعمال هذه العبارات المنفرة.

فالتطرف الديني والتعصب الديني والغلو الديني كلها ألفاظ غير صحيحة؛ لأن الدين ليس فيه غلو وليس فيه تطرف، وإنما الغلو يكون في سلوك بعض من ينتسبون إلى الدين.

فيجب أن يتأمل الإنسان قبل أن يحكم على شيء من الأشياء بأنه غلو، وذلك بأن ينظر إلى العمل بدقة، فقد يحكم عليه بأنه غلو مع أنه في ذاته ليس غلواً، لكن الوسيلة إليه قد تكون من باب الغلو، فيقع الخلط في هذا الباب، وهذا سوف يشرح إن شاء الله تعالى فيما بعد بالتفصيل.

ثم إنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة، ولكن من الغلو الإثقال على النفس إلى درجة الملل، فطلب الأكمل في العبادة مثل أن تكثر من صلاة النافلة، فهذا شيء حسن ومحمود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليكثر) إذاً ليس المراد بالنهي عن الغلو منع طلب الأكمل في العبادة؛ لأن هذا من الأمور المحمودة، لكن المقصود من المنع من الإفراط المؤدي إلى الملل، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك ما هو أفضل.

وليس من العدل من العبد أن يصف شخصاً بالغلو إذا التزم رأياً فقهياً، فلا تعتبر وجهة النظر المخالفة تشدداً مادام التزام المرء جاء بناء على أحد أمرين: إما اجتهاد سائغ شرعاً بأن بلغ درجة الاجتهاد، وإما تقليد لعالم من العلماء موثوق في دينه وعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد.

لقد تعودنا أن نسمع إذا خالف شخص في قضية ما أن مخالفه يصفه بأن متشدد، وذكر هنا بعض الشيوخ مثالاً يقول فيه: رأيت امرأة تلبس جلباباً يغطي كل بدنها وفتحة واحدة فقط للعين تنظر منها الطريق وغير ذلك، فقلت: ما هذا التشدد وما هذا الغلو؟! فهذا الإنكار في مثل هذه المسألة لا يجوز، بغض النظر عن التحقيق العلمي في القضية؛ لأنه رأي ناشئ عن اجتهاد، سواء أكان اجتهاد أحد الأئمة الكبار أو اجتهاد من هو موثوق بعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد، وكان مأموناً في دينه وفي علمه من عدم اتباعه للهوى.

إذاً: لا يجوز أن تصف الرأي المخالف لك في مثل هذه القضايا بأنه غلو في الدين، بخلاف أهل الجهل وأهل البدع، فإنهم يتكلمون بالهوى، يقول الله عز وجل عنهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:٢٣] لكن هذا اتبع أدلة شرعية معتبرة، فالأخذ بالرأي الأشد من الآراء المختلفة لا يعد دليلاً على الغلو، فقد يكون تشدداً من وجهة نظر المخالف، لكن هو في الحقيقة لا يراه تشدداً، بل هو يراه حكم الله، فلذلك لا يجوز استعمال مثل هذه العبارات الشديدة كالتنطع أو الغلو أو التطرف في حق من يأخذ برأي يراه مخالفاً وتشدداً، بينما يراه مخالفه أقرب إلى حكم الله.

وهناك غلو من جهة أخرى، مثل أن يأخذ الإنسان برأي، وهذا الرأي رأي صواب، وتجد صاحب هذا الرأي يصف المخالفين له بالمروق من الدين، كما يحصل أحياناً من بعض علماء الظاهرية إذا كان الحق معهم، فإذا بهم يسلطون ألسنتهم على من خالفهم في قضية فقهية ويقولون: لا يقول بهذا إلا فاسق لا مروءة عنده ولا دين.

ويشتمون أئمة العلم وأئمة الهدى، وقد يكون الذي خالفهم إماماً جليلاً كالإمام أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما فتجد كلاماً فظيعاً تقشعر منه الجلود، فهذا غلو في أسلوب الانتصار للرأي وليس غلواً في الرأي ذاته، فقد يطرأ الغلو على الرأي الفقهي السليم بسبب أسلوب الشخص الذي يدافع عن هذه القضية.

كذلك في المقابل تجد إنساناً يأخذ بقول شيخ معين على أساس أن هذا الشخص معصوم لا يخطئ ولا يتطرق إلى كلامه خطأ على الإطلاق، فهذا -أيضاً- من مظاهر الغلو؛ لأنه ينتصر له بغير هدى من الله، فغاية علمه أنه مقلد.

إذاً: يمكن أن يكون للإنسان رأيه في قضية، أو عقيدته في قضية هي حق، ولكن وسيلته في إقناع الآخرين لهذا الدفاع والانتصار لهذا الرأي هي التي يدخلها الغلو.

لقد كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما متشدداً في فقهه، كان يميل إلى الاحتياط الشديد في العبادة، لكن هل وصفه واحد من الصحابة بالغلو؟ هذا لم يكن.

إذاً: ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يصف انحرافاً عن شريعة الله تبارك وتعالى أن يطلق وصفاً عاماً، بل يختلف الأمر بحسب درجة الانحراف.

ومن قواعد الشريعة أنه لا يكفي الانحراف في قضية جزئية في جماعة أنت تعلم أنها خارجة عن الدين أو أنها فرقة ضالة من فرق أهل النار حتى يكون انحرافها في قاعدة كلية من قواعد الشريعة أو في مسألة كلية من كليات الدين، فيطلق الوصف، بل لابد من أن نقول: النصارى عندهم غلو في عيسى عليه السلام حيث رفعوه إلى مقام الألوهية.

يقول شيخ الإسلام: والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر به عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والرافضة والمرجئة.

ولا يعني هذا أن غيرها من الفرق ليست منحرفة، بل المقصود أن الابتداع أو الغلو الفرعي لا يصل بصاحبه إلى أن يعد من أهل البدع والغلو بإطلاق، بل يقال: غال في العمل الفلاني.

أو: مبتدع في الأمر الفلاني.

فلو أن الإنسان وضع يديه على الصدر بعد الرفع من الركوع فبعض العلماء -مثل الشيخ ناصر الدين الألباني - تكلم في هذه القضية وقال: هذا ابتداع.

أو: هذه بدعة وضلالة.

فيأتي بعض الإخوة الذين عندهم في فهمهم قصور فيقولون: إن الشيخ الألباني يقول عن الشيخ الفلاني: إنه مبتدع وضال.

مع أن الشيخ الألباني لم يقل: مبتدع.

ولم يقل: ضال.

وإنما قال: هذه بدعة.

نقول: هناك فرق بين أن تصف الفعل بأنه بدعة وبين أن تطلق على الشخص وصفاً عاماً بأنه مبتدع، ففي مثل هذه القضايا الجزئية الدقيقة لا ينبغي إطلاق وصف الغلو أو البدعة بصورة عامة، لكن لو أن شخصاً ابتدع في موضوع معين فلك أن تقول: ابتدع في الموضوع الفلاني، ابتدع في الأذان، ابتدع في كذا.

لكن لا تطلق الوصف إلا بالضابط الذي ذكرناه، فإطلاق وصف الغلو دون انتباه إلى هذا التقسيم تجوز في العبارة وتعميم في الحكم، وهو مثيل ما يتهم به الغلاة.

ومن وصف مسلماً ارتكب كفراً عملياً بالكفر وبأنه كافر مطلقاً فهذا يعتبر غلواً منه هو ذاته، وهكذا.

فتعميم إطلاق أوصاف التكفير والتفسيق دون رجوع للضوابط الشرعية هو -في حد ذاته- غلو من فاعله.

ومن الأمور التي ينبغي ملاحظتها حينما نطلق لفظ الغلو هو الحرص على اللفظ الشرعي، كما يقول شارح الطحاوية رحمه الله: والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة وطريقتهم، فهم يعبرون عن الحقيقة في القضايا المختلفة بالمصطلحات الشرعية التي استعملت في الكتاب والسنة.

فمثلاً: قضية الفوقية.

فأهل السنة لا يقولون: التحيز ولا الجهة، ولا مثل هذه العبارات التي أحدثها المبتدعون، لكنهم يستعملون ما ورد في الشريعة ولا يحيدون عنه أبداً.

وكذلك لا نقول: هذا تطرف.

بل نقول: هذا غلو؛ لأن التطرف لفظ أو مصطلح محدث ليس من الألفاظ الشرعية، لذلك لا تجد في كلام أهل العلم لفظ التطرف إلا على سبيل الندرة في مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا يدل على أنه لا مانع من مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صح