عندما أصدرت محكمة البغي قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه رحمهم الله اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم من مثل هذه النازلة التي لا تستهدف حياة البرآء المحكومين بقدر ما تستهدف منزلة الإسلام نفسه والمعتصمين.
يقول الشيخ المجذوب حفظه الله: وكلفني الشيخ يومئذ بصياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف، فكتبتها بقلم يقطر ناراً وكرهاً وغيرة وأدخلتها عليه وكلي يقين بأنه سيدخل عليها من التعبير ما يجعلها أقرب إلى لغة المسئولين الدبلوماسيين منها إلى لغة المنذرين، ولكنه حطم كل التوقعات حين أقرها جميعاً، ولم يكتف حتى أضاف إليها قول الله تعالى في سورة النساء:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:٩٣]، ووصلت يومئذ البرقية التي كانت -فيما أظن- الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي بهذه المناسبة لما تحمله من عبارات أشد على الطغاة من نزع السياط.
وينفخ الشيطان في نفس أحد الحكام فيعلن شبهاته بالطعن على كتاب الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الطاغية طعن في القرآن والسنة بتوجيهاته التي تقيأها في مؤتمر للمعلمين عام (١٩٩٤م) وكان المجلس الاستشاري يضم ثلة من كبار علماء العالم الإسلامي يواصل اجتماعاته بالجامعة الإسلامية لدراسة المناهج وتطويرها، وإصدار توصياته بشأن الإحداثات التي تتطلبها المرحلة الجديدة، فوجه المجلس عدداً من برقيات الاحتجاج والاستنكار بمزاعم الطاغية حملت توقيعات الأعضاء جميعاً ما عدا واحداً اكتفى بالدعاء عليه، على أن الشيخ لم يستطع الاكتفاء بذلك فقال إلى كاتبه يملي عليه مقالاً في تفنيد تلك الأباطيل، وفضح مزاعم الطاغية التي تلم عن منتهى الجهل بالإسلام ولغة العرب، وقد نقلت الصحف والمجلات ذلك البيان الذي كان قطعة بارعة من فقه الشيخ وأدبه وغيرته اللاهبة على دين الله، يتلو تلك الهجمة الطائشة عدوان طواغيت الصومال من الشيوعيين على شريعة الإسلام.
فمعروف أن عدو الله سياد بري، ألغى أحكام الإسلام في الميراث، وأعلن التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث، فثار ضده علماء المسلمين، فجمعهم في الميادين العامة وأحرقهم أحياء -عليه من الله ما يستحق- اعتداء منه على الإسلام، ثم تلته هذه الهجمة من طواغيت الصومال الشيوعيين على شريعة الإسلام، إذ ألغوا أحكامها العادلة في موضوع الإرث والحياة الأسرية، ليحلوا مكانها أحكام جاهلية ماركسية، ولما أعلن علماء مقديشو حكم الله في عدوانهم هذا أخذت الظالمين العزة بالإثم، فأحرقوا عشرة منهم وهم أحياء، وزجوا بالعشرات الآخرين في السجون، فكان لهذا الطغيان الرهيب أثره العميق في قلب الشيخ، لم يلمس إزاءه سوى القلم الذي حمل إلى البغاة ما يجب أن يتلقوه من مثله رحمه الله، وقبل ذلك كان للشيخ صولة في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، خرج منها بالقرار التاريخي الذي يدين ثلة الشيوعيين الذين يفرضون وجودهم بقوة الحديد والنار، وطواغيت موسكو على مسلمي الجنوب العربي الذي لم تقف فيه حمامات الدم منذ استيلاء هذه العصابة الحاقدة على زمام السلطة في عدن وحضرموت، وعلى هذا الغرار يمضي الشيخ في مواجهة الأحداث التي تهم بالإسلام وأهله على مستوى العالم الإسلامي كله.