[ما هو الأولى في الاستئذان: تقديم السلام أو تقديم الاستئذان؟]
هل يقدم السلام أم الاستئذان؟ هل تقول: أأدخل؟ السلام عليكم، أم: السلام عليكم أأدخل؟ قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ثم الاستئذان، أو تقديم الاستئذان ثم السلام؟ أتدرون ما منشأ الخلاف هنا؟
الجواب
منشأ الخلاف أنّ الآية السابقة فيها: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧]، فهل العطف بالواو هنا يقتضي الترتيب أم لا يقتضي الترتيب؟ أما هنا فمن المؤكد أنّه لا يقتضي الترتيب؛ لأن في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: السلام عليكم، أأدخل؟)، فالسنة العملية بينت الآية بما يجب المصير إليه، ولا يجوز النظر فيما خالفه؛ لأنه متى ما ثبت تفسير الآية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يجب المصير إلى هذا التفسير.
يقول النووي رحمه الله تعالى: والصحيح الذي جاءت به السنة، وقاله المحققون أنه يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ القول الثاني: يقدم الاستئذان، ويقول: أأدخل؟ السلام عليكم.
والثالث: التفصيل، وهو اختيار الماوردي من أصحابنا: إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان.
قال الشوكاني: وليس عليه دليل.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام، يقول العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان، وتقديم الاستئناس -الذي هو الاستئذان- على السلام في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:٢٧]، لا يدل على تقديم الاستئذان؛ لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك.
فإذا قلنا: جاء محمد وعلي، فالعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يفيد مطلق التشريك، أي: أنّ الاثنين اشتركا في المجيء، وأما من الأول منهما؟ فلا دليل عليه من هذه الجملة، أما إذا قلنا: جاء محمد ثم علي، فإن (ثم) تقتضي الترتيب والتراخي.
وقال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى في هذه الآية: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:٢٧]: هو من المقدم الذي معناه التأخير، إنما هو: حتى تسلموا وتستأذنوا، فهذا فيه تقديم وتأخير؛ لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب وإنما يقتضي مطلق التشريك، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو، كقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:٤٣] والركوع قبل السجود، فالعطف هنا يقتضي مطلق التشريك، وليس يقتضي الترتيب.
وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:٧] فهذا ليس فيه ترتيب؛ لأن نوحاً قبل نبينا عليه الصلاة والسلام.
إلاّ أنّ هذا لا ينافي أن يعطف بالواو والمراد منها الترتيب، لكن لابد أن يدل دليل على اقتضائها الترتيب في ذلك الموضع.
ومثال مجيئها للترتيب قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:١٥٨]، فلو تركت هكذا بدون دليل لجاز لك أن تبدأ في الطواف والسعي بأي واحدة منهما، ولكن جاء حديث يدل على أن المراد بالواو هنا الترتيب، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به)، وفي بعض الروايات: (ابدءوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر، فهذا يدل على أن (الواو) هنا تقتضي الترتيب وليس مطلق التشريك.
وأيضاً في قول حسان رضي الله تعالى عنه: هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء برواية الواو: (وأجبت)، فهذه الواو تقتضي الترتيب؛ لأن هناك من هجا النبي صلى الله عليه وسلم، فدافع عنه حسان رضي الله عنه، فجواب الهجاء لا يكون إلا بعده.
وإيضاح ذلك: أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف كالحديث المذكور في البدء بالصفا، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور، أنها تدل على الترتيب؛ لقيام الدليل أو القرينة على ذلك، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وهذا بيان للمراد من القرآن الكريم، فيتعين المصير إليه، كما أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأقر من أتى به، وأنكر على من خالفه.