[عصمة النبي صلى الله عليه وسلم]
فمن أول أدلة حجية السنة: عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد انعقد الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون عن أي شيء يخل بالتبليغ، ككتمان الرسالة، والكذب في دعواها، والجهل بأي حكم نزل عليهم أو الشك فيه، والتقصير في تبليغه.
وهم كذلك معصومون من أن يتصور الشيطان لهم في صورة الملك، ومعصومون من أن يلبس عليهم في الرسالة، ومعصومون من أن يتسلط على خواطرهم بالوساوس، ومعصومون من تعمد الكذب في أي خبر أخبروا به عن الله تبارك وتعالى، وتعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل الله عليهم، سواء كان ذلك البيان بالقول أم بالفعل، والمعجزات التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على أيدي الأنبياء عليهم السلام تقوم مقام قوله تعالى: صدق رسلي في كل ما يبلغونه عني؛ لأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخاطب كل واحد من بني آدم خطاباً مباشراً، ويقول له: إن محمداً عليه الصلاة والسلام رسولي، فاتبعه وآمن بما جاء به.
لكن هذا -مع عدم إمكان وقوعه في الدنيا لأحد- فإنه يقتضي أن يصبح الإيمان عن طريق الإجبار والإكراه، لكن الله سبحانه وتعالى بعث رسله وأيدهم بالمعجزات، وهذه المعجزات تقوم مقام قول الله سبحانه وتعالى للبشر: صدق رسولي فيما يبلغه عني، فآمنوا به واتبعوه.
فالله سبحانه وتعالى أيدهم بالمعجزات التي لا يمكن أن تكون لأحد من البشر ولا تجري إلا على يد من أيده الله سبحانه وتعالى بها وخرق العادة على يده.
فإذا جاز على الأنبياء أي شيء مما يخل بالتبليغ، إذاً لأدى ذلك إلى إبطال دلالة المعجزات على النبوة، وهذا مخالف، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٤ - ٤٧].
ثم بعد هذا شهد الله له عليه الصلاة والسلام بالبلاغ والصدق، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢] إلى آخر الآيات.
وقال تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:١ - ٣].
فهو معصوم من أن ينطق بالهوى على الإطلاق، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤]، فلذلك إذا استعملت قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:٣] فهذا أبلغ من أن يقال: (وما ينطق بالهوى)؛ لأن استعمال حرف (عن) فيه تنبيه على مصدر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم.
أما في آخر حياته عليه الصلاة والسلام فقد أوحى الله إليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولم أترك شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه).
وأيضاً: الرسل معصومون من السهو والغلط في هذا التبليغ على الصحيح، والذين جوزوا مثل ذلك أجمعوا على حصول التنبيه فوراً من الله سبحانه وتعالى، وعدم التقرير عليه، هذا كله يستلزم أن أي خبر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وأقره الله عليه، صادق قطعاً ومطابق لما عند الله سبحانه وتعالى من الحكم فيجب التمسك به بالإجماع.
فبهذا تثبت حجية قول النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن إن هذا كلام الله؛ لأنه معصوم كما ذكرنا، وتثبت أيضاً حجية قول النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث القدسية، قال الله أو قال رب العزة كذا وكذا لأنه معصوم من السهو والخطأ في التبليغ، ومن أن يوسوس له الشيطان أو أن يلبس عليه، ومن أن يكذب على الله، ومن أن يقصر في التبليغ، فهو معصوم من كل هذه الأشياء لسبب، وهو: أن أقواله وأفعاله حجة صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذه العصمة تثبت حجية قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، لأنه خبر معصوم فيكون حجة دالة على أن الوحي قسمان: كتاب، وغير كتاب، الكتاب: هو المعجز المتعبد بتلاوته وهو القرآن الكريم، وغير الكتاب ما ليس كذلك، وهو قسمان: الحديث القدسي، والحديث النبوي.
فإذا كان كل ذلك من عند الله كان الكل حجة قائمة على الخلق إلى يوم الدين.
وبعصمته صلى الله عليه وسلم عن الكذب في التبليغ تثبت حجية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله مثلاً: (بني الإسلام على خمس)، وقوله: (ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله)، وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني منا سككم)، وقوله: (فعليكم بسنتي)، وبهذا تثبت حجية جميع أنواع السنة من قول أو فعل أو تقرير، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي).
فهذا الخبر صادر عن معصوم من الكذب، ومن الخطأ في التبليغ، فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يكون الضلال في التمسك بالسنة، وإنما الضلال في تركها، والعمل بما يخالفها، فلا يمكن أن يأمن الإنسان من الضلال إلا إذا أخذ بالقرآن والسنة معاً.
أما الضالون المبتدعون ممن يسمون أنفسهم بالقرآنيين، فهؤلاء غير معصومين من الضلال؛ لأن الأمان من الضلال معلق على أمرين، لا على أمر واحد، وهما: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي).