يقول الله عز وجل:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت:٤٦] يقول القرطبي: قوله: (إلا بالتي هي أحسن) أي: بالجميل من القول، إذا تناقشتم معه فتناقشوا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، وهذا في الحقيقة قول مهم جداً؛ لأن أحسن القول هو كلام الله كما جاء في الحديث:(أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فإذا كنا نجادلهم بالتي هي أحسن فنستحضر أحسن الحديث الذي هو القرآن، بعض الناس يقول: كيف نخاطب الكفار والمشركين بالقرآن وهم لم يؤمنوا به؟ نقول: نعم نخاطبهم به كما خاطبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرتعشون أحياناً خوفاً من العذاب الذي تنذرهم به آيات القرآن، فقد كانت تنزل على قلوبهم كالصاعقة؛ لما للقرآن من سلطان على النفوس.
إذاً: فأول ما ينبغي الاهتمام به إقامة الحجة على الكافر بتلاوة كلام الله عز وجل الحق وقرآنه المجيد، ومن الخطأ الانصراف عن أحسن الكلام إلى ما عداه من كلام البشر، والزهد في الاستدلال بآيات القرآن عند مخاطبة الكفار بحجة أنهم لم يسلموا بعد، علينا أن نخاطبهم بآيات القرآن، إنما أنزلت لإنذارهم وإقامة الحجة عليهم؛ لما للقرآن من سلطان خفي مع الكفار، فنجد الواحد منهم إذا سمع القرآن تملكته الهيبة والرعدة ويقول: هذا الكلام ليس بكلام مخلوق.
ما سر سلطانه وقوته؟ إنه يعطي صورة حية مع المسلمين الأعاجم كالهنود والباكستانيين، فالشعب الباكستاني يعتبر من أكثر الشعوب الإسلامية عاطفة دينية وحمية للإسلام، وكذلك عاطفة الهنود المسلمين، فتجد أحدهم يمسك القرآن وينظر فيه وهو لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة العربية، ولا يستطيع القراءة، سوى أنه يمسك القرآن ويبكي ويضمه إليه ويقول: كلام ربي كلام ربي! وحدثني أحد الإخوة عن واحد من هؤلاء الأعاجم -وهو كردي- كان في مجلس فيه بعض الشيوخ، وفي أثناء حديثهم يأتي ذكر أبي هريرة فإذا ذُكِرَ أبو هريرة خاض في البكاء الشديد، مجرد أن يسمع ذكر أبي هريرة يبكي، ما أقسى قلوبنا، هذا الرجل يرق قلبه لذكر اسم الصحابي أبي هريرة راوية الإسلام، وحامل أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف سيكون حاله إذا سمع حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام أو كلام الله عز وجل؟!! حكى لي أحد إخواننا أن مجموعة من الكفار السواح مروا بأحد المحلات بعد العصر، وكان صاحب المحل فاتحاً لإذاعة القرآن الكريم، والشيخ يقرأ بترتيل، فوقف هؤلاء السواح مشدوهين منجذبين بشدة إلى هذا الكلام، وعبروا عنه تعبيراً له دلالة، قالوا بالإنجليزي: هذا موسيقى! فقد لفت نظرهم هذا الوقع الجميل للقرآن الكريم.
الشاهد: أن القرآن له وقع على القلوب نحن لا نستطيع بأن نصفه، لكننا نحس بأثره حتى مع الكافر.
فالقرآن له سلطان على قلبك، ونجد كذلك كثيراً من النصارى إذا تليت عليهم آيات من القرآن لا يقوون على الطعن في القرآن الكريم، خاصة النصارى الذين عاشوا مع المسلمين؛ لأنهم عرفوا حقيقة القرآن، بخلاف إخوانهم من الكفار في البلاد البعيدة، فمن رحمة الله عز وجل أن عاشوا في وسط المسلمين، فصاروا أقرب للدخول في الإسلام، فتجد النصراني الذي يعيش في أوساط المسلمين يقول: أنا أقر أن القرآن كلام الله لكن محمد هو نذير إلى العرب خاصة؛ حتى يسوغ لنفسه عدم الدخول في الإسلام، فهذا أقصى ما يصل إليه كثير من النصارى؛ لأنه لا يملك أن يكذب محمداً عليه الصلاة والسلام أبداً ولا يكذب القرآن؛ لأنه عاش مع القرآن، وقد سمعنا كثيراً من الكفار أسلموا منذ زمن بسبب صوت الشيخ محمد رفعت رحمه الله، بغض النظر عن الطريقة في التلاوة ففيها نظر، لكن هذا له دلالة على أن إسلامهم كان بسبب سماع القرآن من بعض الشيوخ الذين يقرءون بخشوع وبصوت حسن؛ فيؤدي ذلك إلى دخول الكثير في الإسلام.
إذاً: ينبغي أن نقدم كلام الله على ما عداه من الكلام عندما ندعو غير المسلمين إلى الإسلام، ولا نصغي ولا نلتفت إلى هؤلاء الذين يقولون: كيف نقرأ لهم القرآن وهم لم يؤمنوا بأنه كلام الله؟ نقول: وإن لم يؤمنوا فمن باب إقامة الحجة عليهم بكلام الله فإنه أحسن الحديث.
فينبغي أن نتذكر ذلك إذا تلونا قوله عز وجل:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت:٤٦]، فأولى الكلام الحسن في ذلك هو كلام الله عز وجل.
وقوله:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت:٤٦] أي: الذين امتنعوا عن أداء الجزية، ورفضوا أن يدخلوا الإسلام، وأصروا على نصب الحرب ضد المسلمين، فهؤلاء ليس لهم هذه الحقوق كما ذكرنا.