المقاييس التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه والقيم والموازين هي أن شأن عباد الله الصالحين أنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص بعد ما حكى عاقبة قارون وما كان عليه من المظاهر والرياش والأموال:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}[القصص:٧٦] يعني: كانت المفاتيح فقط تحملها عصبة من أولي القوة وتكون ثقيلة عليهم، هذه مفاتيح الخزائن فما بالك بما في الخزائن! لكن ماذا كانت عاقبة قارون؟ أهلكه الله تبارك وتعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}[القصص:٨١].
في نهاية القصة يقول تبارك وتعالى مبيناً العبرة والدرس من هذه القصة العظيمة:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:٨٣]، كلمة (تلك) إشارة تعظيم وتفخيم، وفيها تنزيل الشيء الغيبي منزلة المشاهد والمحسوس.
قوله:((تلك الدار الآخرة)) يعني: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها هي الدارة الآخرة.
قوله:(نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) قيل: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
تأمل في الآية لم يقل تبارك وتعالى: نجعلها للذين لا يعلون في الأرض ولا يفسدون، لكنه نفى عنهم مجرد الإرادة، يعني: أنهم أصلاً لا يريدون فضلاً عن أن يفسدوا أو يعلوا في الأرض، حتى مجرد الإرادة أو الميل بالقلب لا يخطر على قلوبهم، ففي تعليق الوعيد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما، بمعنى أننا يجب ألا نريد العلو ولا الفساد في الأرض فضلاً عن أن نقع في العلو أو الفساد، كما قال عز وجل:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:١١٣] فعلق الوعيد بالركون، والركون: هو مجرد الميل القلبي أو مساعدة الظالم، كما قال بعض السلف: لو أن ظالماً طلب منك أن تناوله قلماً لا تعطه أخذاً بهذه الآية؛ خشية أن يكتب به ظلماً فتعينه على ظلمه.
قوله:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً) العلو: هو الغلبة والتسلط بسوء وتكبر على المسلمين، ونتأمل هنا قوله تبارك وتعالى:(لا يريدون علواًَ في الأرض ولا فساداً) فكرر (لا)، إشارة إلى أن كلاً من العلو والفساد مقصود بالنفي، ليس هما شيئاً واحداً معطوفاً على بعض، يعني: لا يريدون علواً ولا فساداً.
قال عكرمة: العلو في الأرض: التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها، والفساد: العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه.