للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحديد النسل بين مقاصد الشريعة وآراء العقلانيين]

هناك أمر مهم جداً نحتاج إليه ونحن ندرس هذه المسألة، وهو أننا كثيراً ما نردد عبارة: المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فإذا تأملنا جميع ما احتوته الشريعة الإسلامية من أحكام، وافترضنا أن هذه الشريعة عبارة عن نهر عظيم، يصب في هذا النهر عدة ينابيع، وهذه الينابيع تتصرف إلى ستة ينابيع، وهذه الينابيع الستة بعد ذلك تتفرع فروعاً أصغر كما يحصل بالنسبة لشجرة الجزر، فهذه هي الفروع أو المصالح الخمسة الضرورية لبقاء أي أمة، والأمة الإسلامية مأمورة بحفظ ستة أشياء أساسية ضرورية: حفظ الدين، والنسل، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.

فإذا تأملت أي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية فستجد أنه لن يخرج عن حفظ أحد هذه المقاصد الستة، ولو تأملنا كل أحكام الشريعة لوجدنا أنها تصب في حفظ الدين، فمثلاً: قتل المرتد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل، كل هذه الأحكام تصب في المحافظة على دين المسلمين، وكذلك النسل، فإن كثيراً من الأحكام إنما شرعت لأجل حفظ النسل والعرض.

وأحياناً نجد بعض الأحكام قد تبدو لأول وهلة في نظر الناس أنها أشياء يسيرة، لكنا نجدها باجتماعها إلى أسباب أخرى تؤدي في النهاية إلى حفظ عرض المسلمين، فمثلاً: مسألة تحريم كل ما يؤدي إلى الفاحشة، كتحريم الخلوة، وتحريم الاختلاط، وتحريم سفر المرأة بدون محرم، وغير ذلك تجد أن هذه الأحكام كلها تصب في قضية مهمة، وهي المحافظة على العرض.

وكذلك المحافظة على العقل، فتحريم المسكرات، وتحريم كل ما يذهب عقل الإنسان، هذه كلها تصب في هذا الجانب.

وكذلك الحفاظ على المال.

ومما يلحق بذلك ما نحن بصدده الآن من هذه المقاصد الستة: المحافظة على النسل، فإنه من المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية.

وفي بعض الدول إذا حاولت بعض الحركات أو الأحزاب عمل انقلابات على الحكومة، أو الطعن في نظمها، فإن فاعل ذلك يحاكم؛ لأنه يتآمر من أجل تغيير النواة الأساسية للمجتمع، أو الأهداف الأساسية للأمة، وهي عندهم جريمة كبرى، وهذا كذلك بالنسبة للمسلمين الذين دينهم هو جنسيتهم وعقيدتهم ووطنيتهم، فإن الحفاظ على هذه الأشياء الستة عندهم أمر مقدس، ولا يسمح أبداً أن تسير أي دعوة في اتجاه مضاد لها؛ لضرورة المحافظة على هذه الأصول أو هذه المصالح الست، فلا يمكن أن يسمح أبداً بأي دعوة أو نظام داخل الدولة الإسلامية من شأنه أن يزين ما قبحه الشرع، أو يقبح وينفر مما حرض عليه الشرع، ففي قضية الحفاظ على النسل نجد أن كل أحكام الشريعة الإسلامية وكل نصوص الشرع تحرض على زيادة النسل، وترغب فيه بشتى الوسائل، وتتنوع أساليبها في ذلك تنوعاً كبيراً.

وحينما نتكلم عن النسل فلن نقتصر فقط على الكثرة العددية والتوالد، لكن كلمة (النسل) أو (المحافظة على النسل) في الإسلام لها معان أبعد من ذلك، فإنها لا تقتصر فقط على الزيادة العددية، وإنما تشمل أيضاً الحفاظ على علاقات الترابط، وصلات القربى والأرحام، كالأبوّة، والبنوّة، والأخوّة، والأمومة، والخئولة، والعمومة، فهذه الروابط توجد نوعاً من المصالح والتعاطف والتراحم بين هذه المجموعات التي تنتهي بعائلة صغيرة، ثم العائلة الكبيرة، ثم القبيلة، ثم الشعب، ثم الأمة.

أيضاً: مما شرع من أجل خدمة هذه الأهداف: الترغيب في الزواج، والترغيب في الإكثار من النسل، وقد شرع الله عز وجل عقوبة الزاني وعقوبة القاذف أيضاً من أجل المحافظة على النسل، وتنوعت أساليب القرآن الكريم من أجل الترغيب في زيادة النسل، وكما ذكرنا أن (المحافظة على النسل) أحد المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية، والتي لا تقبل بأي حال من الأحوال أن يقدح فيها أحد، أو يعارضها، أو ينفر منها، أو يسير في اتجاه يضادها، فإذا أردنا أن نحتكم مع المخالفين فسنقول: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه مسألة يختلف فيها كثير من الناس، والله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:٥٩].