للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ورع اللسان]

إذا ضعف ورع اللسان أو انحرف أو زال عن الإنسان؛ فإنه يتجرأ على الخوض في أعراض الناس، فيتجرأ في بعض الأحيان ويطلق الأحكام جزافاً بدون تثبت، فيجرح أو يعدل ويخطئ ويصوب، وربما سمع شيئاً في حق من هو مخالف له فلا يتفطن إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع)، فنتسمعه يردد كل ما يسمع لموافقته هواه، ويظن أنه ليس عليه عهدة في ذلك لأنه يروي عن الآخرين، ويظن أنه لا يخوض في عرض إخوانه، ويظن أن الرواية عن الآخرين تشفع له، وهذا ظن خاطئ، فالواجب عليه أن يتثبت في ذلك، فهو داخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع)، فليس كل ما تسمع ترويه وتنقله وتعتمده، ولا يشفع لك أنك تقول: إنما أروي عن غيري؛ لأن هذا هو عين ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام، فقوله: (كفى بالمرء كذباً) فيه توضيح أن عين الكذب أن تحكي وتروي بدون تثبت، وهذا ينشأ منه كثير من الفتن، والخوض في حقوق المسلمين لا يجوز؛ ولأن الكلام وافق هواه فهو ينقله عن الآخرين بحجة أن هذا كلام سمعه، وأنه لم يختلقه، والرسول يقول: (كفى بهذا كذباً) يعني: ليس كذباً أصرح من هذا.

فينبغي التثبت تماماً مع من لا تحب كما تتثبت في حق من تحب، وحسن الظن بالمسلمين واجب، فكل المسلمين سواء من هؤلاء أو هؤلاء ينبغي أن تنضبط بميزان العدل معهم، بعض الناس تراه يجرح ويعدل ويخطئ ويصوب قبل أن يستوعب الأمر، وقيل: أن يجمع أطرافه ويدرسه من جميع جوانبه، فيغلب على أحكامه الجور وعدم القسط، وحينما تتفلت الألسنة من قيود الشرع والعقل فإنها تتبارى في الوقيعة في أعراض المسلمين، وتجلب العداوة والبغضاء بين الأحباب، ولو تأمل الإنسان ما ورد في مثل هذا من النصوص لتردد كثيراً قبل أن يزل لسانه ليرمي به من هنا ومن هناك، يقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨]، فيا ويح غافل وليس بمغفول عنه! (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)، ولو أنك بكل ذنب ترتكبه بلسانك رميت حجراً في غرفة لامتلأت هذه الغرفة في زمن يسير جداً بالأحجار؛ بحيث لا تتسع بعدها لشيء آخر، فالإنسان في غفلة عن هذا الذي يحصى عليه كل يوم، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!).

من أجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الضمان الذي يؤمن لك دخول الجنة هو حفظ اللسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن العجب! أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين وبالزهد وبالعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب.

وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، وتزداد الخطورة ويعظم الذنب إذا كان هذا القدح الجائر في العلماء، فهم سادة الأمة وقادتها ونورها، ولا خير في قوم لا يعرفون لعلمائهم قدرهم.

وفي هذا الزمان قد ابتلينا بهذه الجماعات التي تبدأ تعرض وتزين وتزخرف فكرها للآخرين ليقبلوا عليه، وأول ما يهتمون به هو تحطيم علماء المسلمين في نظر الشباب، وأكل لحوم العلماء بالغيبة والنميمة والبهتان أحياناً، والتنقص من شأنهم، والازدراء لهم، والتطاول عليهم، وهذا من أعظم الذنوب، والله عز وجل يعجل لفاعله العقوبة؛ لأن الطعن في علماء المسلمين ذنب عظيم، يقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة.

فعادة الله وسنته جرت أن كل من يتناول ويقع في أعراض علماء المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى جرت سنته أنه لابد أن يهتك ستر من هتك ستر أئمة العلم والهدى، فقوله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة.

يعني: من أكل منها هلك ومات، وأهلكه الله تبارك وتعالى، يعني: من أكل منها بالغيبة والنميمة؛ فلا ينبغي أبداً أن يقر أحد على التطاول على علماء المسلمين، أو هتك أعراضهم، أو الخوض فيهم بغير حق، بل ينبغي أن تحمل أقوال العلماء وأفعالهم على أحسن وجه ممكن، ويجتهد الإنسان في ذلك، وهو مثاب على هذا الاجتهاد وإن أخطأ.

الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى له كتاب (الرد الوافر)، وقد طبع الكتاب الشيخ زهير جزاه الله خيراً، وكأنه تعمد ألا يكمل عنوان الكتاب على الغلاف؛ لأن هذا الكتاب هو في على العلاء البخاري الذي تطاول على شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن من قال: ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فرد الإمام ابن ناصر الدين عليه بهذا الكتاب القيم جداً، والذي لا يليق بكم ألا تقرءوه، والعنوان هو: الرد الوافر على من قال: من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فمراعاة لحرمة شيخ الإسلام ما أتم الشيخ زهير طبع العنوان على الغلاف، لكن سماه فقط الرد الوافر، ويقول الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى في هذا الكتاب: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فأعراض المسلمين حفرة من حفر الناس، ومن وضع قدمه في أعراض المسلمين فقد وضعها على شفا جرف هار يخشى أن ينهار به في نار جهنم، وكما قال أحد الحكماء: يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته في الرجل تبرى على مهل إذاً: العلاج الأول للجور في الحكم على الآخرين: ورع اللسان، والخوف من الله تبارك وتعالى، وخوف العقوبة من التطاول بغير حق في أعراض العلماء.