[كيفية انتقال الضرر من الحاسد إلى المحسود]
من أقوى الأدلة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥] كلمة: ((إِذَا حَسَدَ)) إثبات أن هناك حقيقة لهذا الشر.
فبعض الكتاب يذهب إلى أن الحسد: أن تتمنى زوال النعمة، ويجب أن يترتب عليها أذية باليد، وباللسان، وبالجوارح، لكن مذهب أهل السنة في هذه المسألة: أن يؤمن الإنسان بوجود الحسد حتى ولو لم يتعد إلى الأذية باليد أو البدن أو الجوارح، وإنما يؤمن بوجوده في القلب وفي النفس الخبيثة، كما بين ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند كلامه على قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٤ - ٥] وذكر أن تحقق الشر منه يكون عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، واللفظة المهملة هي: التي لا معنى وراءها، ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسداً إلا إذا قام به الحسد، كما تقول: هذا رجل ضارب، لمن قام به الضرب، وشاتم، لمن قام به الشتم، وكذلك حاسد تقال لمن قام به فعل الحسد، ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، فوجهت إليه سهام الحسد من قلبه، فتأذى المحسود بمجرد ذلك، وهذا شيء لا يقع تحت الحواس، لكن الواقع يشهد له.
فإن لم يستعذ الإنسان بالله ويتحصن به، وتكون له أوراد من الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله، والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد.
إذاً: الحسد سبب في وقوع الشر، وربما لا يقع تأثيره إذا وجدت موانع في الشخص، والمناعة تكون بالذكر بالتحصن بالأدعية والأذكار، وقوة الإيمان، فمن فعل ذلك فلا يناله هذا الشر، وإلا وقع فريسة له ولابد.
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥]، هذا بيان لمعنى شر الحاسد؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أن جبريل كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)، فهذه استعاذة من شر عين الحاسد، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها، يعني: عينه كجارحة لا تؤثر، بل الذي يؤثر هو نفسه وروحه الخبيثة، إذ لو نظر الحاسد إلى المحسود نظر لاهٍ ساهٍ غافل عنه، ولم يقصده، ولم يوجه نفسه الخبيثة إليه كما ينظر إلى الأرض أو إلى الجبل وغيره، فإنه لن يؤثر فيه شيئاً.
وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة، كأن يحصل نوع من التفاعل في نفسه الخبيثة، واتسمت واحتدت واشتعلت فيها نار الحسد، فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة، فأثرت في المحسود تأثيراً بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، والغلبة تكون حسب قوة هذا وضعف ذاك، فربما أعطبه وأهلكه كما سنرى في الأحاديث، وهذا بمنزلة من صوب سهماً -يعني: وجه سهماً- نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلاً، لكن لو أن هذا الرجل كان قد ارتدى درعاً سابغاً فلن يخترقه السهم، فهذا الدرع يحميه من هذا السهم، وهذا الدرع في قضيتنا هو الذكر والقرب من الله سبحانه وتعالى.
وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر، فهذه العين إنما يكون تأثيرها بواسطة النفس والروح الخبيثة، وليس العين نفسها، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية من السم، فتؤثر في الملسوع إلى آخره.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعين من الحيات فقال: (اقتلوهما، فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل).
يعني: تأثير هاتين الحيتين بمجرد رؤية الإنسان إليهما فقط، فقد يطمسان بصره، ويسقطان الحبل، فالحمل يسقط بالرؤية فقط، وليس بممارسة مادية.
إذاً: هذا تأثير النفس الخبيثة لهذه الحية، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها؟! يقول ابن القيم: فلله كم من قتيل! وكم من سليب! وكم من معافى عاد مضنىً على فراشه يقول طبيبه: لا أعلم داءه ما هو! فصدق.
يعني: أن هذا الطبيب صادق؛ لأن هذا داء ليس من علم الطبائع، ولا يدخل في يد الطب هنا؛ لأنه شيء حسي واضح، وهذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها، ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع، وانفعال الأجسام عنها، وهذا علم لا يعرفه إلا الخواص من الناس، والمحجوبون ينكرونه.
يقول: وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى.
يعني: أن الجسد نفسه عبارة عن إنسان بروح وجسد، في قوانين تحكم الجسد، وهذه متروكة للأطباء، وأهل العلوم المادية، وهناك أشياء تحكمها المعرفة بالأرواح وبهذه الأمور الغيبية.
يقول: هل الانفعال والتأثير -حدوث ما يحدث عنها -من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح؟ يعني: هل الجسد نفسه يؤثر بشيء؟ فتخيل نفس الجسد وهو ميت ماذا يكون تأثيره؟ والأجسام عبارة عن آلة بمنزلة آلة الصانع، لكن المؤثر يكون الروح.
فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط لوصول أثره إلى الصنع.
يقول: ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم، ولطفت روحه، وشاهد أحوال الأرواح وتأثيرها، وتحريكها الأجسام، وانفعالها عنها يرى من ذلك آيات عظيمة على ربوبية الله، ووحدانيته سبحانه وتعالى، ويوقن أن ثمَّ عالماً آخر تجري عليه أحكام أخر، تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه.
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: تأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة، أو القطعة من اللحم، فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل، وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات؟ ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواء هو والتراب، هذه حقيقة ندركها جميعاً.
فهل يخاطبك الإنسان أو يراك، أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخف عليك ويثقل إلا بالروح؟ فإنك تجد بعض الناس فتشعر أنه خفيف، وتجد بعض الناس كأنه جبل فوق رأسك وهذا بتأثير الروح، فهذا شيء لا يخضع للقوانين المادية الحسية، لكن هذا عالم آخر له قوانين أخر، فالإنسان يؤنسك ويوحشك، وذلك بالأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر، فرب رجل عظيم الهيولى، كبير الجثة، خفيف على قلبك، حلو عندك، وآخر لطيف الخلقة، صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل؛ وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه، ومرارتها.
وبالجملة فالعلق -العلائق- والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلاً، وللأشباح -للأجسام- تبعاً.
هذا كلام ابن القيم في إثبات تأثير الأرواح الخبيثة بالخير أو بالشر.
وقال أيضاً في موضع آخر: لا يمكن لعاقل أن ينكر تأثير الأرواح في الأجسام فإنه أمر مشاهد محسوس، لو تثائب رجل بحضرتك ربما تثاءبت أنت، وربما تثاءب جميع الجالسين.
يعني: هل هناك وصلة مادية معينة بين هذه الأجسام جعلتها تنقل إليها التثاؤب بهذه الطريقة؟ ليس إلا من تأثير نفس الكسلان، فحين تجالس الكسول ينتقل إليك هذا الكسل، فإذا تثاءب تجد نفسك ترغب أيضاً في أن تتثاءب، فهل هناك سلك نراه يوصل، أو أي وصلة مادية حسية أثرت هذا التأثير؟ هذا هو تأثير الأرواح على بعضها البعض.
ويقول أيضاً: أنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه.
يعني: فهل توجد وصلات مادية هي التي أثرت ذلك، أم أنه تأثير الروح؟ والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، بل التأثير قد يكون بالاتصال بفعل مباشر، فمثلاً: شخص خنق شخصاً هذا يؤثر باتصال مباشر بمباشرة الأذية، وتارة بالمقابلة، فيتأثر بمجرد أن يقابله وجهاً لوجه، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح بنحو تؤثر فيه، وتارة يأتي التأثير بالرقى، والتعويذ، والأدعية.
فالعائن الحاسد لا يتوقف تأثير عينه على أن يرى الشيء الذي يحسده، فرب أعمى يوصف له الشيء فيحسده ويؤثر فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤيا.
انتهى كلام الإمام ابن القيم في إثبات حقيقة الحسد بمعناه.
يقول القرطبي: لا شبهة في تأثيره -أي: الحسد- في النفوس والأموال، وهذا قول عامة الأمة، ومذهب أهل السنة، وأنكره قوم مبتدعة، وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود.
فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى.