للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على دعوى ما ترك المسلمون هدمه من التماثيل]

أما الأشياء التي تركها المسلمون ولم يهدموها فهي -كما يقول بعض العلماء- على أقسام: الأول: ما كان من هذه التماثيل داخلاً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، أي: حصل صلح واتفاق بين المسلمين وبين أهل هذه البلاد من الكفار فتركوا لهم تماثيلهم وأوثانهم وصلبانهم بشرط عدم إظهارها.

فالإسلام يصبغ المجتمع بصبغة الله {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:١٣٨]، والإسلام يحرص على الظاهر العام، فالظاهر لا يكون فيه ما يناقض شريعة الإسلام.

فأقروا على ما كان داخل معابدهم بشرط أن يكون عن صلح وعهد، فالمسلمون يحترمون عهودهم ولا يحترمون الأوثان، فهم يحترمون شرع الله الذي يلزمهم باحترام العهود والمواثيق، فما كان في الداخل وغير ظاهر لا ينكر عليهم، ولا يمس بسوء.

ففي الشروط العمرية -المعروفة- على أهل الذمة: وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، وأن لا نخرج صليباً ولا كتاباً في أسواق المسلمين إلى آخره.

القسم الثاني: أن تكون هذه التماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجز المسلمون عن هدمها وإزالتها، فهناك تماثيل هائلة منحوتة في الصخور وفي الجبال لا يستطاع إزالتها أو تغييرها، ولذلك يقول ابن خلدون في مقدمته: إن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.

يعني التي تستغرق قروناً أحياناً لكي تبنى، مثل الصنمين في باميان في أفغانستان، فقد بنيا في قرنين، يتعاقبون على نحتها مائتي سنة.

وفي مدينة ميلانو في إيطاليا توجد كنيسة هناك مشهورة بنيت في خمسمائة سنة! وكان على قمتها صنم من الذهب وضعوه فطمس، لكن ليس المسلمون الذين طمسوه، وإنما جاءت عصابة المافيا بالطيارة فسرقته.

وهذه الأشياء المنحوتة العظيمة تجعل بعض الناس يفترض أن الجن هي التي صنعت لهم هذه التماثيل من صعوبة نحت الجرانيت، فالجرانيت ينحتونه كتلة واحدة كما هو معروف، فـ ابن خلدون يشير إلى هذا، يقول: إن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.

قال: لذلك نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء؛ هذا كلام ابن خلدون في مقدمته.

وذكر مثالاً أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى، فشرع في ذلك، وجمع الأيدي، واتخذ الفئوس، وأصلاه بالنار، وصب عليه الخل حتى أدركه العجز.

وذكر أيضاً أن المأمون أراد أن يهدم الأهرام في مصر فجمع الفعلة ولم يقدر.

وما يقال من أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ترك أصنام مصر كأبي الهول وغيره فذلك غير صحيح، إذ لم يثبت أنها لم تكن مطمورة بالأتربة، وهذا شيء معروف جداً، يدل عليه موضوع النشاط المحموم في استخراج التماثيل منذ قرن أو قرن ونصف في مصر لما نشأت عملية البحث عن هذه الآثار.

ففي مصر قامت الحملة الفرنسية في الأهرامات، وحين ترى صورة أبي الهول ترى أن أبا الهول ليس كاملاً، والصور الموجودة مرسومة بخط اليد منذ زمن، فأبو الهول كان لا تزال أجزاء منه مخفية تحت الرمل، فإما أن الصحابة لم يروا هذه التماثيل، وإما أنهم رأوا هذه الأصنام ولم يقدروا على تحطيمها، وهذا عذر يعذرون به؛ لأن طالبان لما حاولت تحطيم هذه الأصنام كيف حطمتها؟ أعدت الديناميت والمتفجرات والمدافع وأشياء حديثة جداً، فكيف بعصر كان السلاح هو القوس والسيف والرمح ونحو هذه الأشياء؟ فهل سيقدرون على أن يحطموا هذه الأشياء؟ وهل كل بلاد يفتحونها يظلون فيها لكي يشتغلوا بهذا ويتركوا امتداد النور لآفاق الأرض؟! إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر عمرو بن العاص رضي الله عنه على سرية لكسر بعض أصنام العرب، فكيف يدعي هؤلاء الناس أن عمراً أقر الأصنام اعتقاداً منه بجواز تركها؟!

و

الجواب

لا؛ إذ يمكن أن يكون تركها عجزاً عن ذلك، لكن اعتقاد هذا افتراء شديد على عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، ولو قيل: إن هذا رأي لـ عمرو بن العاص فأسوتنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومعروف التفصيل في قول الصحابي، فقول الصحابي الذي يحتج به هو ما لم يخالف قول النبي عليه الصلاة والسلام.

وكذلك يحتمل أنها كانت مطمورة تحت الأرض، أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات، فمعمل أبي سنبل ألم يكن مطموراً بالرمال مع التماثيل والأصنام إلى ما قبل قرن أو نصف قرن تقريباً؟! وهذا المقريزي المتوفى سنة (٧٤٥هـ) يقول في الخطب في الجزء الأول: إن أبا الهول مغمور تحت الرمال -أي: في وقت المقريزي - لم يظهر منه إلا الرأس والعنق فقط دون الباقي.

وهذا بخلاف الحال اليوم.

والزركلي سئل عن الأهرام وأبي الهول ونحوهما: هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولاسيما أبا الهول.

وهذا في كتاب عن شبه جزيرة العرب.

فمن التطاول على خير القرون أن يفترى عليهم ويزعم ذلك الزعم على هذا النطاق.