فإن قيل: إنه يسعنا ما وسع السالف الصالح من أنهم لم يناظروا أهل البدع، وإنما هجروهم وقاطعوهم، وهذه بعض الآثار: فعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه؛ لا يلقيها في قلوبهم.
وعن أيوب السختياني قال: لست ترد عليهم بشيء أشد من السكوت، وقال الخواص: إذا جاءكم مجادل بغير حق فتصدقوا عليه بالسكوت؛ فإنه يخمد هيجان نفسه، وعن عبد الله بن السري قال: ليست السنة عندنا أن يرد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا نكلم أحداً منهم، وكتب رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى يستأذنه في أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتج عليهم، فكتب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً فيه: الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبّسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم.
فنقول: إنّ الحق والصدق أن هذا هو مسلك السلف رحمهم الله تعالى في التعامل مع أهل البدع، فقد كانوا يهجرونهم، وينابذونهم، ونقول: نعم يسعنا ما وسع السلف رحمهم الله تعالى إن كانت ظروفنا مثل ظروفهم، لكن إن ابتلينا بما عافاهم الله تعالى منه فلا شك أن الموقف يختلف، فقد غاب السلطان الشرعي الذي كان يضرب على أيدي المبتدعة ويحجر عليهم، وقعد كثير من أهل العلم عن التصدي للمبتدع الذي أذاع بدعته على نطاق واسع، وتحقق حصول الضرر من نشاط هؤلاء الناس على العوام وبعض الخواص، ومع ذلك فلنا أسوة في أهل العلم في كل زمان ممن تصدوا لأهل البدع بالرد والتفنيد.
فهذا الإمام مسلم رحمه الله تعالى يقول في مقدمة صحيحة: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتقسيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً لكان رأياً متيناً، ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطَّرح أحرى لإماتته، وإخماد ذكر قائله، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيهاً للجهال عليه، غير أنا لما تخوفنا شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
وأنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض، فقال الإمام أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه.
إن الطائفة الوحيدة التي تتصدى لأهل البدع هم أهل العلم المختصون، وأما طالب العلم القليل البضاعة فضلاً عن العوام الذين لا يدركون حقائق هذه الأشياء فلا شك أن دخولهم في مثل هذا دخول في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا استشرفت للفتن استشرفت لك) أي: إذا نظرت إلى الفتن بعين واحدة فإنها ستهجم عليك، وترحب بك، وتدخلك في بطنها، وهنا أذكر نصيحة لعموم الإخوة جميعاً وهي: أن من سمع شيئاً في وسائل الإعلام فيه طعن، أو تكذيب، أو بعض الشبهات، فالواجب عليه أن يخمده ما استطاع ولا يذيعه أو ينشره، إلا إذا أُذيع ونُشر رغماً عنا، ففي هذه الحالة يتعيّن الجواب العام، لكن لا نشغل أنفسنا بالرد على كل من ألقى حجَراً؛ لأننا سنكون بذلك قد أذعنا هذه البدع ونشرناها، وعممنا ضررها.
قال الغزالي معلقاً على كلام الإمام أحمد: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، وأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
ولا شك أن الحجْر على أهل البدع ممن يعيثون في الأرض فساداً هو أولى من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، فإن المبتدع إذا زجر وهجر بات كالثعلب في جحره، وأما تركه يحديث ببدعته وضلاله فهذا فيه تزكية له، وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً.