للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إصراره على إنكار الشفاعة في الآخرة]

أما المقالة الثانية فعنوانها: (الردود الغاضبة والعاتبة)، وقد كانت في (١٥/مايو)، يقول فيها: الردود الغاضبة والعاتبة على موضوع الشفاعة بالمئات، وأنا لم أفهم سبباً واحداً لهذا الغضب، فالله -بكرمه وحلمه- فتح لنا باب التوبة؛ حتى نتوب عن ذنوبنا، ونتطهر من أوزارنا، وجعل هذه التوبة مفتوحة إلى النفس الأخير، فلا يغلق بابها إلى ساعة الحشرجة، وهذه التوبة تجبُّ كل الذنوب، واقرءوا معي سورة البروج إلى آخر كلامه.

فقد بدأ يوهم القارئ بأنه يتوب عن هذه المقالة، مع أنه لا يريد أن يقول ذلك، بل هو يريد أن يقول: إن باب التوبة مفتوح، لكن باب الشفاعة مغلق، فهو معاند ومصر على ما قاله، ثم يقول: وهل يريد الغاضبون والعاتبون أن يفعلوا ما يشاءون من الذنوب والخطايا، وأن يسترسلوا في ذنوبهم وآثامهم وشرورهم إلى آخر العمر ثم يموتوا دون توبة، ويلفظوا أنفاسهم دون ندم، ثم يريدوا ساعة البعث أن يستخدموا رسولهم ليشفع لهم، فإذا قلنا لهم: ضيعتم فرصتكم الوحيدة في التوبة في حياتكم ضجوا واحتجوا ورمونا بالجهل، وجاءوا بعشرات الأحاديث لعشرات من الرواة يقولون هذا، وذاك من عجيب القول، ولا سلطان عندنا في مثل هذه الأمور الغيبية إلى لكلمة القرآن، ثم يقول: إني لا أرى مكاناً للاختلاف، ولا موضعاً للاشتباك، وإنما كل منا يعمل بإيمانه، وكل فريق يعمل على شاكلته، فالموضوع لا يصلح فيه الجدل، فهو موضوع غيبي يتناول الآخرة، والآخرة لله وحده يفعل فيها ما يريد؛ فهي شأنه.

فنقول: المشكلة أنك تكذب خبر رسول الله عليه السلام الذي تواتر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)، فمن أركان الإيمان: (ويؤمنوا بي وبما جئت به).

ويقول أيضاً: والقرآن لا يفتح باباً إلّا ويسده.

أقول: هو لا يريد أن يرمي القرآن بالتناقض والعياذ بالله، لكنه يريد: أن هناك آيات تفتح باب الشفاعة، لكن لا تلبث أن تأتي آيات وتسد هذا الباب، وهذا كلام المسكين القاصر في فهم الآيات.

يقول: والقرآن لا يفتح باباً إلّا وسده, فهو يقول: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣]، لكن لا يلبث أن يقول في موضع آخر: قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، ولذلك عاد فأغلق الباب فجعله مقصوراً على أهل الرضا، أي: المرضي عنهم، ويستدل بالآية: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:٤]، فقوله: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ)) أي: من دون الله، ((وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)).

فنقول له: إن الشفاعة التي تحصل إنما تكون بإذن الله، فتنسب إلى الذي أذن وهو: الله سبحانه وتعالى، فهذا عيسى عليه السلام لما كان يخلق من الطين كهيئة الطير قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:٤٩]، فكل مرة كان يذكر هذا القيد: ((بِإِذْنِ اللَّهِ))، فهذا ليس من فعل عيسى، ولكنه فعل الله.

ثم يقول أيضاً: وهل خرج قادة الإسلام الأوائل وأبطاله إلا من هذه المشكاة: (مشكاة القرآن)، وما كان عن يمينهم كتب سيرة، ولا رواة سيرة، ولكنهم كانوا يشهدون السيرة بأعينهم من معينها الحي، من النبي نفسه الذي كان يخرج معهم في غزواتهم.

أي: أنه يحصر كل السنة في السيرة، وهذا شيء عجيب، ويقول: والآن قد ترقّى بنا الزمن، وأصبحنا نقرأ عن وعن وعن إلى آخر العنعنات التي لا يعلم بها إلا الله، واختلف أهل هذه العنعنات، والقرآن بين أيدينا لا اختلاف فيه، فآياته المحكمة كالسيف تقطعنا عن أي شك إلى آخره.

ثم يقول: وأضعف الإيمان أن نتدبر آيات القرآن الكريم ولا نغلق باب الاجتهاد في فهمها أبداً، فكل كتاب يؤخذ منه ويرد إلا هذا الكتاب، فهو خزينة العلم كله، وما أضر الإسلام والمسلمين إلا إغلاقهم باب الاجتهاد في دينهم، وتحويلهم لمرويات السيرة والأحاديث إلى مسلمات ومقدسات ومحظورات لا تمس ولا تناقش كأنها مومياوات محنطة.

أي: أنه يصف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كأنها مومياوات محنطة، ثم انظروا إلى هذا الذي يطعن في البخاري والأئمة، انظروا إلى ثقافته الضحلة أين ستصل به، فإنه يقول: وما حثني على الكتابة في موضوع الشفاعة إلا حديث رسولنا العظيم الذي قال فيه: (من يترك العمل ويتكل على الشفاعة يورد نفسه المهالك، ويحرم من رحمة الله)، فمن أين -أيها الوضاع! - أتيت بهذا الحديث؟! فهذا شيء غريب، فتراه يرفع هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر السند، ولا من أخرجه، ولم يسمع أحد بهذا الحديث في أي كتاب من الكتب التي تكلمت عن الشفاعة، فإذا كان هذا حظه من الجهل بالسنة فكيف يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟! ويقول أيضاً: موضوع الشفاعة غيبي، ومكانها وزمانها يوم القيامة، ولا يستطيع أحد أن يدعي الإحاطة بما سيجري في هذا اليوم، ولا نملك بعد استعراض القرآن والسنة إلّا الاجتهاد في الفهم، واحتمال الخطأ وارد.

وسبق في أثناء الكلام ذكر من الذي له حق الاجتهاد في فهم النص، أو في الاجتهاد الفقهي المعروف.

ولا شك أن موضوع الشفاعة غيبي، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، لكن ربنا سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:١٧٧]، ومعنى الإيمان بالله واليوم والآخر أن تصدق بالأخبار التي وردت بشأن اليوم الآخر ومنها أخبار الشفاعة، (حتى يؤمنوا بي وبما جئت به)، فتؤمن بما أخبر به النبي عليه السلام ولا تكذبه، وقد قال الإمام أحمد: من كذب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة، فهذا موضوع غيبي والغيب أتانا من طريق الوحي، سواء كان القرآن أو السنة؛ لأن السنة وحي كما بينا ذلك بالتفصيل من قبل، فمعنى كونه موضوعاً غيبياً أنه ليس للعقل ولا للاجتهاد فيه مجال، وإنما هو خبر، وواجبنا أن نصدق هذا الخبر ونسلم به، قال الإمام الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، فنقول: سمعنا وأطعنا، فهذا هو واجب المؤمن.

ثم يقول في نهاية الكلام: نكتفي بما قلناه، ونختم الموضوع مؤثرين الإيمان على الجدل، والتفويض على تبادل التهم، فبحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار.

والله وحده الهادي، ونسأله المغفرة.

فنقول له: فعلاً إن بحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار، ومن سار في بحر الشبهات كما سرت أنت دون أن يتمسك بطوق النجاة، أو رام النجاة في غير سفينة أهل السنة والجماعة فلن يسلم من الغرق، فإن السنة هي سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.