[معرفة الرجال بالحق]
يقول الحافظ ابن حزم رحمه الله: التقليد على الحقيقة: إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان، فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليداً، فقام البرهان على بطلانه.
وقال الشوكاني رحمه الله في التقليد: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة، فثمرة التقليد إهمال النصوص الشرعية، وتعطيل العقل البشري، فالإنسان يرى بعين غيره بدون معرفة دليله، ولسان حاله يقول: إن إمامه قد اقتبس شعلة من نور العصمة، فلا يمكن أن يفوته حديث، ولا يمكن أن يفوته فهم حديث؛ فيصبح فكر الإنسان أسيراً لا حراك به، ليس له قدرة على التأمل أو التفكير أو النظر، وإن وجد فيه بقية من تأمل أو فكر فإنه يسخرها لتحليل أقوال شيخه ودراستها، فمنها المبدأ وإليها المنتهى! كثير من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وبين طلبة العلم قديماً وحديثاً حصلت بسبب هذا التقليد، والتعصب لأقوال الرجال، ومعرفة الحق عن طريق أقوال الرجال، وجعلها حجة في كل صغيرة وكبيرة.
يقول الإمام ابن القيم: اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة.
فمسألة التقليد والتعصب لأقوال الرجال خطأ كامن وخطير جداً في منهج التلقي، فينبغي تجاوز أقوال الرجال، والتحرر من هذا الداء العضال إلى تقديم قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وما يعلم أحد من الأئمة الربانيين إلا وقد نهى عن تقليده، وأخذ كلامه بدون برهان، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر.
ربيعة شيخ الإمام مالك يعرف بـ: ربيعة الرأي، واسم أبيه فروخ، خرج هذا الأب إلى الجهاد وبقي سنوات طويلة، وكان ربيعة ما يزال حملاً في بطن أمه، ثم ولدته أمه وعلمته حتى صار إماماً، وقصته طويلة معروفة، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا! يعني: يتحسر لحال بعض العلماء لاتصافهم بالرياء الظاهر، والشهوة الخفية، وأن الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، والعلماء هم الذين يتولون صياغتهم وتربيتهم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت.
وقال مالك بن أنس رحمه الله: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وبعض تلامذة الإمام مالك كان يحضر مجلسه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عن الإمام مالك أنه إذا تكلم وناظره أحد في مسألة وناقشه في الدليل، فكان يرفع صوته بهذه العبارة المشهورة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الشافعي رحمه الله: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي، وجعل يردد هذا لكلام.
وقال الإمام أحمد: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال أيضاً: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
فهذا هو منهج الأئمة الكرام بصفائه ونقائه، ومع وضوح هذه القضية عند أهل العلم إلا أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني من هذا الداء المستحكم، ليس فقط في مسائل الفروع، لكن أيضاً في مسائل الأصول وأمور العقيدة.
يقول الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق، الحق هو حق لأن فلاناً قاله، وليس حقاً لأنه قام عليه الدليل، والعاقل يقتدي بسيد العقلاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله، والعاقل ينظر في القول نفسه فإن كان حقاً قبله، سواءً كان قائله مبطلاً أو محقاً، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام، والرغام هو التراب، فالذهب تحصل عليه من التراب، فكذلك حتى لو كان في أقاويل أهل الضلال شيء من الحق فتأخذ هذا الحق ولا تعرض عنه.
قال: ولا تأس على الصراف إذا أدخل يده في كيس القلاب.
لماذا؟ لأن الصراف ناقد وبصير يستطيع أن يميز الذهب من غيره.
قال: وانتزاع الإبريز الخالص من الزيت والبهرج دون الصيرفي البصير، ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق.
أي: فيمنع من الدخول في البحر الشخص الأخرق الذي لا يحسن السباحة، لكن السباح الماهر يسمح له بذلك حتى يغوص ويستجلب الدرر.
قال: ويصد عن مس الحية الصبي دون المغرم البارع.