[نفي وجود أي خلاف في سيادة الشرع للمنهج الإسلامي]
والسؤال الأخير الذي يفرض نفسه الآن: هل يعتبر تفرد الشرع الشريف بالسيادة موضع خلاف في المنهج الإسلامي، أو في داخل الأمة المسلمة؟! لا بد أولاًَ أن نحرر محل النزاع في هذه القضية، فالسيادة التي جرى حولها النزاع هي السيادة في مفهومها الغربي كما فصلنا فيما تقدم من الكلام، وهي السلطة العليا المطلقة التي تحدد نفسها بنفسها، فلا تتقيد بقانون؛ لأنها هي التي تضع القانون، ولا تعرف فيما تنظمه من علاقات سلطة أخرى تساويها أو تساميها.
فإذاً: أبرز ما يميز هذه السلطة الإطلاق، سلطة مطلقة بلا قيود، والعلو، والتفرد أو الوحدانية، والأصالة والقيام بالنفس.
وهذه الصفات تشبه كلام الأشاعرة: قيامه تعالى بنفسه، فهذه صفات الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى وهذه في اللغة الكلامية، فكذلك يشبه قيامه تعالى بنفسه قولهم: قيام صاحب السيادة بنفسه، أي: أنها لم تستمد هذه الخصائص من جهة أخرى؛ لأنه لا توجه فوقها، بل ولا مثلها جهة.
كذلك أبرز علامات السيادة: الحق في التشريع المطلق، فالقانون هو التعبير عن إرادتها الحرة، وليس لأي جهة كائنة ما كانت، ولا لشخص كائناً من كان أن يقيد هذه الإرادة أو أن يلزمها بالتصرف على نحو معين إلا إذا أرادت هي ذلك، فهل كانت السيادة على هذا النحو موضع نزاع في الفكر الإسلامي؟ وهل قال أحد من علماء المسلمين: إن أحداً بعد الله عز وجل له سلطان مطلق في التشريع يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء إلى آخره؟ إن الذي نقطع به ويقطع به كل مسلم أن أحداً من أهل الإسلام لم يجترئ على هذه المقالة في تاريخ الإسلام، اللهم إلا إذا كان قد كفر بعد إيمانه، وخلع ربقة الإسلام من عنقه، والدليل على ذلك ما سبق سرده من الأدلة، وأي محاولة لتصوير القضية على غير هذا النحو تمييع لها، ولذلك تلاحظوا الجماعة الذين يأتون في الإعلام ويتناولون هذه القضايا بناء على مصطلح يستعملونه وهو (دايالوج) و (مونولوج)، فالـ (مونولوج) يطلق على الطرح عندما يكون المتكلم واحداً ويفرض كلامه على الجالسين، أما الـ (دايالوج) فهو اشتراك أناس في حوار مفتوح لكن هناك من يفرض رأيه على الناس، فتجد أنه يتكلم في غرف مغلقة ولا يسمح لأحد أن يعترض عليه، ولا يمكن للصوت الآخر أن يصل، فيسمم أفكار الناس بما شاء من ضلالاته.
والحقيقة كما ذكرنا مراراً أن عموم الناس ما زالوا على ولائهم للإسلام، ويكفي أن الناس لو تجد أدنى ثغرة ينفسون فيها عن ولائهم للإسلام فإنه يحصل هذا الطوفان الهادر المزعج لأعداء الإسلام، وهذا الذي يجعلنا ندعو أن لا يتورط أحد في التكفير المطلق لعموم الناس؛ لأن المسألة أنه يحال بينهم وبين شرع الله تبارك وتعالى.
يقول الدكتور الصاوي حفظه الله تعالى: إن أي محاولة لتصوير القضية على غير هذا النحو تمييع لها، وتزييف للوعي في أخطر قضية تتعلق بواجب هذا الوقت، فأي مسلم أو عالم من علماء المسلمين في يوم من الأيام قال: إنه ممكن أن تكون السيادة لغير الشرع فالزعم بهذا حدث يجافي الواقع ويكابر الحقائق كما بينا، فحتى كبار علماء الحقوق الذين هم غير متخصصين في الدراسات الشرعية يقررون أن تفرد الشرع بالسيادة موضع إجماع الأمة قاطبة.
يقول الدكتور فرج السنهوري وهو من الذين عملوا في التشريع الوضعي ليس هنا فقط ولكن أيضاً خارج مصر، يقول: روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله تعالى المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة.
يعني: حتى الحقوقيين حينما تأتي تكلمه عن الإسلام يقول: اختاروا الذي أنتم تريدونه، لا إكراه في الدين، لكن عندما يأتي ذكر الإسلام يقول الحقيقة، ولا يمكن أن يوجد عامي من عوام المسلمين باق وثابت على إسلامه ويقول: إن السيادة -بالمعنى الذي ذكرناه- تكون لغير الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] فالذي يخلق هو الذي له الحق في الأمر والتشريع، أما هؤلاء فيفرقون ممكن يقولون: ربنا هو الخالق، لكن يرفضون أن يكون الله هو الآمر والمشرع سبحانه وتعالى.
وهنا نلخص فصلاً مما عقده يقول في خلاصته: إن الاجتهاد يكون في دائرة المباح والأمور التنفيذية البحتة، يعني: الاجتهاد يكون في دائرة المباح فلا تأت تجيش في قضية أن الخمر حرام وتفتح باب الاجتهاد فيها، فالأمور التي حسمت شرعاً لا اجتهاد فيها، وإنما الاجتهاد في دائرة الأمور المباحة، أو الأمور التنفيذية البحتة، أو في عملية القوانين الإدارية، لأن هناك فرق بين القوانين الإدارية وبين القوانين التي تصادم الشريعة، فالقوانين الإدارية تنظم مثلاً كشوفات العمال والموظفين وحقوقهم وكذا وكذا، وهذه أمور إدارية بحتة لا حرج فيها؛ لكن مطلوب فيها الالتزام بروح الشريعة والقواعد العامة من العدل والمساواة وغيرها.
يقول: كذلك: إن الاجتهاد يكون في دائرة المباح في الأمور التنفيذية البحتة التي يتولاها أهل الحل والعقد، الذين هم أهل الشورى مع رقابة عامة من علماء الشريعة، أما الاجتهاد في دائرة الحلال والحرام، وما كان مستنداً إلى النصوص أو حمل عليها بطريق الاجتهاد فإنه يتولاه العلماء وأئمة الفتوى، مع الاستعانة في معرفة الواقع وتوصيفه بأهل الاختصاص.