[مشروعية الرحمة العامة]
من أهم جوانب التسامح في هذا الدين مع غير المسلمين: مشروعية الرحمة العامة، هنالك رحمة عامة يرحم بها المسلم الخلق كافة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يضع رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة) فأول مظاهر هذا التسامح الرحمة العامة؛ بل إن من أسماء الله عز وجل الحسنى المقدسة: اسمه عز وجل الرحمن واسمه الرحيم، ومعلوم اختلاف العلماء في تفسير هاتين الصفتين، وكيف أن الرحيم يختص بالمؤمنين، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة يشمل كل المخلوقات، فالرأفة والرحمة من صفات الله عز وجل.
أيضاً أرسل الله تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧]، ومن هنا حض الإسلام على هذه الرحمة العامة للخلق كافة ورأف بهم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، الناس بكل أبعادها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم).
قال ابن بطال في هذا الحديث: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك.
إذاً: الرحمة شاملة لكل الخلق وليست خاصة بالمؤمنين أو بالمسلمين، وسبب هذه الرحمة ظاهر؛ فإن الحياة بمعنى الحيوانية في الشيء، فكلمة الحيوان مذكر الحياة، والدليل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:٦٤] أي: هي الحياة الحقيقية الباقية.
وعندما نقسم المملكة الحيوانية يدخل فيها الإنسان، ويدخل فيها غيره من الدواب والطيور وغير ذلك، فوجود معنى الحيوانية في الشيء سواء كان هذا الشيء إنساناً أم حيواناً من أسباب الدعوة إلى الرحمة، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل في الإحسان إلى البهائم أجر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لك في كل ذات كبد رطبة أجر) ومعلوم حديث الرجل الذي رأى الكلب وهو يلهث أو يلعق التراب من شدة العطش، فنزل البئر وأحضر له الماء في نعله أو في موقه فسقاه، فغفر الله له بذلك.
إذاً: الرحمة العامة لكل المخلوقات، سواء كان مسلماً أو كافراً أو من البهائم: (في كل كبد رطبة أجر).
أيضاً وجود الكفر أو الفسوق أو العصيان في واحد من الناس هو أمر أصلاً يدعو إلى الرحمة والتأسف، أنت إذا تذكرت ما ينتظره من العذاب الأليم تشعر بالرحمة له والشفقة عليه من هذا العذاب، وتتأسف على حاله؛ لأنه إنسان مبتلى، فالمبتلى لا ينبغي إظهار التعالي عليه، بل على المسلم التقي الذي عافاه الله عز وجل أن يحمد ربه على العافية: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:٩٤] أي: كذلك كنتم قبل أن تدخلوا في الإسلام.
فالإنسان المسلم لا ينظر إلى أن هذه الهداية أو التوفيق جاءت من كده وكدحه، إنما هي برحمة الله إياه وبتوفيقه الذي حرمه ذلك الكافر، فلا تنظر للكافر بتعالٍ، فإنما الأعمال بالخواتيم، لكن انظر له بعين الرحمة العامة، فتحمد ربك على العافية وترحم هذا المبتلى، وما معنى رحمته؟ معنى رحمته أن تنصحه وتدعوه إلى الحق بالأسلوب المناسب.
روى الترمذي عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش)، وكما ذكرنا من قبل فضيلة الدعاء (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فالإنسان لو دعا بهذا الدعاء حينما يرى مبتلى بأي مرض من الأمراض، وتذكره ووفقه الله لاستحضاره ساعتها بإخلاص واستوفت شروط الإجابة، فإن الجائزة هي أن يعافى من هذا المرض مدة حياته كلها، فانظر إلى هذه الرحمة والناس في غفلة عنها.
عندما ترى واحداً مشلولاً، أعمى، مريضاً بالسرطان، مريضاً بأي نوع من الأمراض، فإذا رأيته بهذا المرض وقلت هذا الدعاء، فهذا ضمان وتأمين من النبي عليه الصلاة والسلام أنك تعافى من هذا المرض ما عشت.
أيضاً صاحب البلاء، لا ينبغي أن نقصر هذه الرحمة على البلاء الذي يتبادر إلى أذهاننا كفقدان الصحة والعافية وغير ذلك، لكن من أشد البلاء الذي يبتلى به الإنسان ويصاب به المصيبة في دينه، وأخطر ذلك الوقوع في الكفر والعياذ بالله، كذلك البلاء بالمعاصي، كأن ترى حاكماً رئيساً أو ملكاً أو قائداً عسكرياً كبيراً وكل هؤلاء قد سخروا سلطانهم في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، والتعالي على خلق الله والتكبر عليهم، وتعذيب الناس وأذيتهم في دينهم، وصدهم عن دين ربهم، فلا تنظر إلى ما هم فيه من المناصب المرموقة، أو أن معهم مالاً أو كذا وكذا من الأمور الدنيوية، وإنما تنظر إلى البلاء الحقيقي الذي هم فيه، وتحمد الله أن عافاك من حالهم، وجعلك مسلماً مؤمناً موحداً تقياً.
فالإنسان المسلم يستحضر نعمة العافية من البلاء إذا رأى مكاساً، وإذا رأى أي واحد من الظلمة.
لماذا لا نتذكر الداء فقط إلا عند الأمراض البدنية؟! إذا رأيت من يضيع وقته في الأفلام والتلفاز والمسرحيات والمباريات وكل هذه الضلالات، فإن عليك أن تستحضر نعمة الله عليك أن صرف عنك هذه الأشياء في حين زينها لغيرك: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:٨]، فتحمد الله أن عافاك من هذا وجعلك من أهل تعمير المساجد، وتعمير حلق الذكر، وطاعة الله تبارك وتعالى والدعوة إليه، فهذه كلها من النعم وعكسها من البلاء، فينبغي إذا رأينا صاحب البلاء أن نقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به.
وهل يظهر الإنسان هذا الدعاء ويجهر به أمام المبتلى؟ يذكر العلماء في الآداب الشرعية: أن البلاء إذا كان في الدين، كالمعاصي والكفر والعياذ بالله أو غير ذلك، ويرجى من الجهر به أن ينزجر ذلك الشخص المبتلى بالمعصية أو بالكفر أو المخالفة فلا بأس، لكن لا على سبيل الشماتة ولا على سبيل التعالي، وإنما استحضار لنعمة الله، وطلب للعافية، ثم تذكير لهذا المبتلى بالمعصية لعله إذا سمعه ينزجر.
إذاً: إذا كان يرجى من وراء الجهر بهذا الدعاء أن ينزجر هذا المبتلى فلا بأس أن تجهر بهذا الدعاء، أما إذا كان ذلك يدعو إلى إصراره فلا، وكذلك إذا كان الإنسان المبلتى مريضاً فلا تسمعه هذا الدعاء؛ لأن هذا ليس من الأدب الشرعي، لكن تسر به في نفسك حتى لا تؤذيه، فهذا مما ينبغي أن يلتفت إليه، وهذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة ورمز له السيوطي بالحسن: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش).
إذاً: هذه فرصة عظيمة جداً، وفعلاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، وهذا مما يلفت أنظارنا إلى أن كثيراً من أبواب الخير مفتوحة، ولكن الناس في غفلة عنها، ولذلك يحرمون، فمثل هذا هو محض توفيق من الله، قد تجد الناس تتذكر هذا الدعاء، لكن ليس كل الناس يكرمهم الله باستحضاره: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:٤٦].
فمن توفيق الله عز وجل للعبد أن يلهمه أن يستحضر هذا الدعاء في هذا الموضع، حتى يمتن الله عليه بالمعافاة من هذا الداء.
إذاً: دائماً نكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) بتحريك الشفتين بألفاظ قليلة سهلة ميسورة في وقت قصير تنال أعظم المطالب في الدين والدنيا والآخرة، تنال الجنة والفردوس الأعلى بالدعاء، ومن عجز عن الدعاء مع سهولته وعظم الثمرة المرجوة من ورائه؛ فهذا أعجز الناس لا شك في ذلك.