[حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتباس شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم]
ومن ذلك -أيضاً- ما حدث به عثمان بن عبد الله قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح من ماء -وقبض إسرائيل - أحد الرواة- ثلاث أصابع -من فضة- ومعناه أن القدح كان صغيراً بحجم الثلاث الأصابع- فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراً).
يعني: كان في هذا القدح شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والجلجل هو وعاء صغير يحفظ فيه الشعر.
وروى البخاري -أيضاً- بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة.
فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها -يعني بطانتها-، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه.
فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها -يعني أنه كان في حاجة إليها- فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها.
فقال: نعم) وكان من خلق النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يرد سائلاً، وهو أولى بصفة الجود والكرم من ذلك الذي قيل فيه: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله فأولى الناس بهذا الوصف هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فهذا الصحابي كان يعرف أن هذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان له مأرب وغرض، فهو أراد أن يحرج النبي عليه السلام، ويعلم أنه سيقول له: خذها.
فقال له: (ما أحسن هذه! فاكسنيها).
أي: أعطني إياها؛ فإني أريد أن ألبسها.
وهو يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها.
قال: (فقالت المرأة: يا رسول الله! أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة رضي الله عنهم فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها، فقال: نعم.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه) وانظر إلى الأدب، حيث لم يلوموه في حضور النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما انتظروا حتى انصرف فلاموه ووبخوه وعنفوه، (فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه.
فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها) فهذه هي الخطة التي دبرها لأخذها، يعني أنه أراد أن يأخذ منه هذه البردة بعد أن تلامس جسد النبي عليه الصلاة والسلام رجاء بركته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: (رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أكفن فيها) فيا ليتنا كنا هذا الرجل.
فكل هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاته وما انفصل من جسده من شعر وعرق ولباس وما استعمله من الأواني قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، والواهب لهذا الخير والمعطي له هو رب السموات والأرض.