[كلام ابن القيم عن آفات المعاصي]
ألف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، وهذا الكتاب مما ينبغي أن يهتم به الإخوة اهتماماً شديداً جداً، فهو من الكتب الأساسية في نصيحة المسلمين للفرار من الذنوب والمعاصي إلى الله تبارك وتعالى.
وقد ألفه رحمه الله جواباً على سؤال وجه إليه يقول فيه السائل: ما تقول السادة العلماء وأئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتلي ببلية علم أنها إن استمرت به أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق فما يزداد إلا توقداً وشدة، فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟! رحم الله من أعان مبتلى! (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى! وإن الإنسان ليغبط هذا الرجل الذي سأل هذا السؤال؛ لأنه بهذا السؤال سن سنة حسنة، وبسبب سؤاله ألف الإمام ابن القيم هذا الكتاب المبارك النافع المفيد؛ فننتفع به إلى ما شاء الله تبارك وتعالى، فننصح الإخوة جميعاً أن يهتموا جداً بهذا الكتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).
ومن فطنة هذا السائل أنه لم يحدد داءً معيناً، فمكن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله أن يوسع الجواب ويتكلم في كل احتمال من أمراض القلب أو الجوارح التي يعاني منها هذا السائل فجاء الجواب مفيداً، ويسمى هذا الكتاب أيضاً: (الداء والدواء).
يذكر ابن القيم رحمه الله من آفات المعاصي أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه.
ثم قال رحمه الله: هذا وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك؛ حتى قيل لبعضهم ممن كان يسرف على نفسه بالمعاصي ولا يتوب حتى حضره الموت: قل: لا إله إلا الله.
فقال: آه، آه، لا أستطيع أن أقولها.
سبحان الله! ينطق لسانه بكل هذه الجملة ولا يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله؛ يحال بينه وبينها! كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] وبعض الناس يفهم أن المراد من الطعام والشراب والشهوات، بل المقصود حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة والرجوع إلى الدنيا والاستدراك.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، قال: شاه رخ غلبتك -وهذه من أحجار الشطرنج-؛ لأنه كان في حياته مفتوناً بلعبة الشطرنج، ثم قضى ومات.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب ثم قضى.
وقصة هذا الرجل أنه أراد سوءاً بامرأة قالت له: كيف الطريق إلى حمام منجاب؟ فدلها على مكان، ثم دخلت هذا المكان فأغلق عليها الباب، ففطنت المرأة لما يريده، فخدعته وقالت له: دعني أتهيأ وأحضر أشياء وأعود إليك، ففرت منه المرأة وسلمت من أذاه، فكان يهيم في الطرقات وينشد هذا الشعر متحسراً على أنه تركها تخدعه وتفر منه، فكان يمشي في الطرقات ويقول: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب فأجابه بعض الشعراء: هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب الشاهد أنه عند احتضاره كان يقال له: قل: لا إله إلا الله، فكان يردد هذا البيت.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله.
فجعل يهذي بالغناء؛ لأن الغناء والموسيقى غلبت على حياته- وكان يقول: تاتا تنتنا، حتى قضى.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله.
فكان يجيب: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها؟! ثم قضى ولم يقلها والعياذ بالله.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله.
فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة؟! ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك: فقال: هو كافر بما تقول.
وقيل لآخر ذلك: فقال: كلما أردت أن أقولها لساني يمسك عنها! والعياذ بالله.
يقول ابن القيم: أخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته، فجعل يقول: لله فلس لله فلس؛ حتى قضى.
وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده، وجعلوا يلقنونه: لا إله إلا الله.
وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترىً جيد، هذه كذا حتى قضى.
يقول: سبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وعطل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته؛ فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته؛ فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة، فمن ترى يسلم من ذلك؟! فهناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧] فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطاً، فمن كان قلبه غافلاً عن الله، متبعاً لهواه، أسيراً لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته؛ فبعيد أن يوفقه الله للخاتمة الحسنى، ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعاً بالأمان: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:٣٩ - ٤٠] كما قيل: يا آمناً من قبيح الفعل يصنعه هل أتاك توقيع أم أنت تملكه جمعت شيئين أمناً واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه والمحسنون على درب المخاوف قد ساروا وذلك درب لست تسلكه فرطت في الزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه هذا وأعجب شيء منك زهدك في دار البقاء بعيش سوف تتركه من السفيه إذاً بالله أنت أم ال مغبون في البيع غبناً سوف تدركه