[أسباب عدم الإحساس بخطر المعاصي والذنوب]
لماذا نحن لا نحس بذلك الإحساس؟! لأنه حصل تعايش سلمي بيننا وبين المعاصي، حصل المصطلح السياسي الجديد الذي يسمى التطبيع، ليس التطبيع مع الخنازير والقردة، بل التطبيع مع قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
صارت عادة طبيعية أن يجلس الأب والبنات والأولاد أمام التلفزيون ليعطيهم دروساً خصوصية في كل أنواع الفساد، يصحب الأولاد إلى أماكن الإدمان، يصحبهم إلى عصابات السرقة والقتل والفساد الخلقي، فهل هذا هو الواقع الذي نعيشه الآن أم أننا نكذب ونفتري؟ فنحن لا نحس بخطورة الحد الذي وصلنا إليه مثل جحا الذي كان يقطع فرع الشجرة ولا يحس أنه سيسقط، ويستغرب من شخص يقول له: سوف تسقط بعد حين.
فنحتاج إلى أن نتحرر من سلطان هذا المجال كي نحسن الحكم على هذه الفتنة.
ألا تنظر إلى الخشوع والرهبة والصمت عند من يشاهد المباريات، ولو أن طفلاً صغيراً أو واحداً من الحاضرين صرخ بصوت عال لأسكته الجميع، ألا تنظر إليهم خاشعين وهم ينتظرون ضربة جزاء، ويدعون الله: يا رب يا رب يا رب! وكأنهم على وشك أن يفتحوا القدس وأن يحرروا فلسطين؟! إنه مرض نفسي أن يصل الأمر إلى أن يعتقد أن البطولة هي في الرقص والغناء والكرة، وأن الهدف هو أن نغلب الجزائر أو نغلب دولة كذا وكذا، وصارت المصائب هي انهزام مصر في الكرة أمام دولة أخرى، وتماسيح النيل أو فراعنة مصر لابد أن يفوزوا، وإذا رأيت حال القوم فكأنهم في معبد يتهجدون ويتبتلون، وكأن قلوبهم لا تنشغل بشيء أبداً، يستغرق هذا عقولهم وقلوبهم وفكرهم، حتى لا يحس الإنسان بالجوع ولا بالعطش، وربما لا يحس بألم، ولا يحس بمن يسلم عليه، فضلاً عن أن يذكر ربه وصلاته وعبادته، وتبقى هذه المشاهد الأثيمة يختزنها في ذاكرته، ثم إن الشيطان يستدعي ما اختزنه الإنسان في ذاكرته من تلك الصور التي رآها حتى تعرض له في الصلاة، وفي مرضه، وفي مشيه، وفي كلامه، بل ربما تعرض له عند موته ويكون عليها سوء خاتمته -والعياذ بالله- وهو في وقت أحوج ما يكون إلى ذكر ربه سبحانه وتعالى، فالشيطان بهذا يريد أن يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟! كما أن سماع المكاء والتصدية والأغاني والموسيقى وغيرها من الأشياء لا تقرب إلى الله ولا تزيد الإيمان، بل العكس هو الصحيح، فلو سألنا أي إنسان وكان صادقاً: إذا جلست أمام الفيلم أو المسرحية فهل يزيد الإيمان أم ينقص فما نظن أنه سوف يخالف في الإجابة التي نقطع بها جميعاً، وهي: زين لنا سوء أعمالنا، وكيف نفكر في أن نتوب منها؟! نحن نستحسنها ونستمتع بها، ولا نتصور الحياة بدونها.
مع أنه يتصور الحياة أحياناً بدون صلاة، وبدون صيام، وبدون حجاب، ولا يقلق ولا يشعر بأنه مرتكب كبيرة، لكن لا يتصور أن يعيش بدون هذه الأجهزة، فنحن لم ننته عن المنكر ولم ننه عنه، بل فعلنا المنكر وتواصينا به ونظرنا إليه على أنه عنصر ضروري لحياتنا لا نتصور الحياة بدونه.
بل قد يقتطع بعض الناس من قوت أولادهم الضروري حتى يقتنوا الفيديو أو التلفاز، ففي بعض المساكن العشوائية في الإسكندرية التي تبنى من الطوب ونحوه لكون البيوت تهدمت ولا يجد أصحابها أموالاً يصلحونها، اجتمع سكان هذه المناطق العشوائية وضربوا فيما بينهم حصصاً معينة على كل واحد مقيم واشتروا ما يسمى بالدش، وهذه سفاهة ما بعدها سفاهة.
فنحن في الحقيقة لم نسكت عن إنكار المنكر فحسب، بل أحببنا المنكر، ونحن راغبون فيه، حبب إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ولذلك لما قيل لبعض السلف: ما بال أهل الأهواء شديدي المحبة لأهوائهم؟ قال: ألم تر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:٩٣].
يعني أن عبادة العجل وحب العجل جرى في أبدانهم كما يجري الدم في العروق، كذلك حب أهل هذه الأهواء للأهواء، ونتذكر هنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فإيما قلب أشربها -يعني: أحبها ورضي بها- نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء) فإذا أنكرت هذه الفتنة وقلت: اللهم! إن هذا منكر لا يرضيك ونهيت عنه، أو فعلت غير ذلك من المواقف الإيمانية فحينئذ ينكت في قلبك هذا النور الأبيض، أما من أحب المنكر ورضيه فحينئذ ينكت في قلبه نكتة سوداء.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً تمايز القلوب إلى معسكرين: (حتى تصير القلوب إلى قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض) رواه مسلم.