للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقولُه تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ فيه عُذْرُ الفقيرِ العاجزِ عن الجهادِ الذي لا يَجِدُ ما يَحمِلُه، ولا يجِدُ طعامًا، ولا وليًّا يَخْلُفُهُ في أهلِه، فهو معذورٌ في تَرْكِهِ للجهادِ؛ لقولِه: ﴿أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾، فلم يَمنَعْهم إلَّا عجزُ المالِ.

وعلامةُ صِدْقِ أولئك الذين جاؤوا: أنَّهم لم يأتوا معتذِرينَ مع عَجْزِهم، بل جاؤوا راغِبينَ في أنْ يَحمِلَهم؛ فالمُعتذِرُ عن حَمْلِهم هو رسولُ اللهِ ؛ لأنَّه لم يَجِدْ بُدًّا مِن ذلك؛ لقِلَّةِ الظَّهْرِ.

وقد قيلَ: إنَّهم لم يَسْأَلوا النبيَّ ظَهْرًا يَركَبونَه، ولكنَّهم سأَلُوهُ نِعَالًا تَحْمِلُهم وتَحْمِيهِم مِن الحَرِّ ووَخْزِ الأرضِ؛ لأنَّهم حُفاةٌ لفقرِهم، كما رُوِيَ عن الحسنِ بنِ صالحٍ، وإبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ (١).

ولعِظَمِ النيَّةِ فقد كتَبَ اللهُ لناوي الخيرِ الحريصِ عليه ولم يتيسَّرْ له - أَجْرَ مَن قام به، ومنهم هؤلاء الضُّعَفاءُ الذين رَدَّهم رسولُ اللهِ لقِلَّةِ ما يَحمِلُهم؛ ففي "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ أنسٍ؛ أنَّ رسولَ اللهِ قال: (إِنَّ بِالمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَهُمْ بِالمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالمَدِينَةِ؛ حَبَسَهُمُ العُذْرُ) (٢).

وفي قوله تعالى: ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ أنَّ النَّفْسَ الصادقةَ تَحزَنُ على فَوْتِ الخيرِ لها، ولو كانَتْ مأجورةً عليه بلا عَمَلٍ؛ لقَصْدِها وعَجْزِها، وهذا يكونُ فيمَن عَظُمَ إيمانُه، وقد ذكَرَ اللهُ الباكينَ الذين لا يَجِدُونَ مَحمَلًا يَحمِلُهم إلى الجهادِ في سِيَاقِ المدح لهم، وبِمِقْدارِ قوَّةِ إيمانِ العبدِ يكونُ حزنُهُ على ما فاتَهُ مِن الطاعة، وكلَّما ضَعُفَ إيمانُهُ، قَلَّ تأثُّرُهُ، حتَّى يَبلُغَ بالمنافِقِ الفرَحُ بفَوْتِ


(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٨٦٣).
(٢) أخرجه البخاري (٤٤٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>